تحضير مادة اللغة العربية : محمد ديب - مفدي زكرياء - محمد العيد ال خليفة مسابقة اساتذة الابتدائي 2015 - مدونة الرسائل الجامعية العربية

الثلاثاء، 29 مارس 2016

تحضير مادة اللغة العربية : محمد ديب - مفدي زكرياء - محمد العيد ال خليفة مسابقة اساتذة الابتدائي 2015

تحضير مادة اللغة العربية : محمد ديب - مفدي زكرياء - محمد العيد ال خليفة مسابقة اساتذة الابتدائي 2015







 محمد ديب 

هذا أنا الذي يتكلم يا جزائر
فصوتي لن يتوقف
أنادي من السهول والجبال الممتدة
هذا أنا يا جزائر
سأنزل من جبال الأوراس
افتحوا أبوابكم
أيتها الزوجات الودودات
اعطوني ماءً وعسلاً وخبزاً من شعير
إنني أتيت لأراكم أحمل السعد لكم
ولأطفالكم يا جزائر...

محمد ديب

ولد محمد ديب في مدينة «تلمسان» في الجزائر في عام 0291م، وقد تربى في عائلة كانت غنية وأفلست، ومنذ عام 9391م وحتى عام 0591م مارس عدة مهن، الكتابة، الحسابات والترجمة، والتصميم، وفي عام 0591م قام بعدة تحقيقات صحفية لصحيفة «الجزائر»، وقد نشر أولى رواياته، وهي رواية «البيت الكبير» في عام 2591م وقد قامت بطبعها دار النشر الباريسية الكبرى «سوي» مع عدة كتَّاب آخرين. وفي عام 9591م قامت السلطة الاستعمارية بنفيه من وطنه الجزائر، استقر بعدها في فرنسا، وعاش في جنوبها في منطقة «ساني كلود» حتى وفاته.
وقد تجول كثيراً في بلاد الشرق الشيوعية، كما قام بالتدريس في الولايات المتحدة الاميركية «ولاية كاليفورنيا ولوس انجلوس» وفي عام 5791م قضى فترات طويلة في فنلندا، وهي قد الهمته روياته الثلاث المشهورة التي تسمى الثلاثية البلطيقية، وما تزال كتبه حتى الآن يعاد طبعها لأكثر من مرة في دور النشر الفرنسية، وقد نال جائزة الفرانكفونية الكبرى من الاكاديمية الفرنسية، كما نال أيضاً جائزة اكاديمية ماليرمي في الشعر وجائزة باريس الأدبية الكبرى. وفي موطنه في مدينة تلمسان قامت مؤسسة محمد ديب الثقافية، وباسمها تقام عدة مسابقات في مجال الرواية، والشعر والقصة.
ومعنى هذا أن الكاتب محمد ديب قد قضى نصف قرن في الكتابة، وفي هذه المساحة الزمنية الكبيرة، جرب واستخدم كل تقنيات الكتابة الحديثة في الشعر والرواية والمسرح لتوصيل أفكاره وآرائه، وقد وظف المكان والبيئة الجزائرية جيداً، وهو مسكون رغم بعده عن الوطن بالثقافة الجزائرية في كل نصوصه، وحتى اساطيره يستلهمها من تراب وطنه وشعبه ومجتمعه، رغم خروجه احياناً من اللا زمان واللا مكان. فكتابات محمد ديب غنية بالتجريب والتجديد وبالعمق الضاربة جذوره في وطنه وثقافته وأحوال مجتمعه السياسية والاجتماعية، وفي العمق الانساني الكوني كله. وله المقدرة الفنية العالية على ان يكتب نصاً داخل النص. ويستخدم الحوار الصامت دون ترهل لغة الكتابة السردية، والجملة عندها دائما تعرف هدفها ومرماها والرواية عنده مسكونة باللغة الشعرية الرائعة، وهو يعرف الحدود بين الكتابة الكلاسيكية وطرق التحديث والتجريب، والتجديد، وكما يقول الناقد التونسي طاهر بكري إن الجملة عند محمد ديب هي ابتكار جديد في المعاني والتركيبات الوصفية المبهرة والجميلة. وفي كل جملة عنده تحس بالصوت الإنساني للكاتب نفسه، في داخل كل الفضاء النصي، وهذا الصوت الانساني هو الذي يميز كل كتابات ونصوص محمد ديب عن غيره من الكتاب. فاللغة عند محمد ديب بشهادة أغلب النقاد بعيدة عن المجانية، والسهولة الفجة، والتقريرية المباشرة.
للكاتب محمد ديب أكثر من خمسة وثلاثين مؤلفاً في الشعر والرواية والحكايات والمسرح. وكل عمل عنده يخرج متميزاً ومختلفاً ومتجدداً عن الذي سبقه منذ اول رواية كتبها رواية «البيت الكبير» وحتى آخر رواية «رواية سيمورجة» التي صدرت في عام 3002م، فهو لم يتوقف أبداً عن الكتابة والتجديد والثورة على التقليد. والنص عنده حر من كل قيود الكتابة الكلاسيكية. وبقدر ما هو يطور في شكل الكتابة، وتقنياتها فهو أيضا يهتم بالمضمون والمحتوى الذي يصب في خدمة الهم الانساني الكوني، وقد احب مدينته تلمسان التي ولد ونشأ وتربى فيها، وكان يعتبرها ملهمته الأولى في الكتابة «المكان الملهم»، وقد أصدر في عام 4991م كتابا أقرب للسيرة الذاتية، «تلمسان وامكنة الكتابة»، وهذا الكتاب يتضمن صوراً شخصيته في شبابه المبكر، ولأنه قد عاش في فرنسا منذ عام 9591 وكتب بلغتها لذلك يعتبر الأب الروحي للكتَّاب المغاربة الذين عاصروه وجايلوه خاصة كتاب جيل الخمسينيات امثال مولود فرعون وكاتب ياسين ومالك حداد، ومولود معمري وهم من الجزائر، والكاتب ادريس شرايبي، واحمد سفروي من المغرب وهاشم باكوش والبرت ميمي من تونس، ومن اشهر اعمال محمد ديب رواياته الثلاث المتتابعة عن جماد الجزائريين ضد المستعمر «البيت الكبير» 2591م ورواية «الحريق» 4591م، ورواية «المهنة المنسوجة» 7591م. ففي هذه الكتابات السردية، كانت نظرة الكاتب وافكاره اكثر تبياناً ووضوحاً، وهي تحمل ذاكرة عميقة ومتفتحة للماضي والتاريخ، التي يدين فيها المستعمر الفرنسي وكل ما اركتبه في حق وطنه الجزائر. ويعتبر الكاتب من شهود الكلونيالية، وما بعدها في الوطن المغاربي الكبير، بل في العالم الثالث كله. فنصوصه تعكس حالة الفقر التي عاشها الفرد في الجزائر ومحاولات طمس الهوية، ومحوها نهائياً في كل بلدان المغرب العربي الكبير. ومحمد ديب شجاع في طرح افكاره ورؤاه، عن المستعمر رغم انه يكتب وهو في داخل فم الذئب، كما كان يقول الكاتب «كاتب ياسين» ورغم شجاته ووقوفه ضد المستعمر فقد كانت كتاباته في غاية المنطق والحجة والاقناع، دون اسفافات او هتافية تقريرية. وقد اعتبره النقاد الاغنية الاشهر في حب وطنه الجزائر وفي الوطنية في عمومها ومجملها، وهو يمثل العشق الطفولي الدائم، والحنين الابدي للوطن، رغم البعد الجغرافي عنه. وبعد الاستقلال انقلبت وتحولت نصوصه، الى رواية نقدية فاحصة، وهو يدعو دائماً أهله ومواطنيه الى النظر في مرآة جلية وفاحصة ومصقولة لرؤية الحقيقة التي من الصعب قبولها بسهولة عند الكثيرين، لأن كثيراً ما حدث ويحدث في الجزائر بعد الاستقلال وخاصة المذابح الدموية الاخيرة لم يكن للغريب او المستعمر دور ظاهر فيها، ولا يمكن أن نحمل المسؤولية كما يقول للماضي وللتاريخ.
رغم أن أغلب كتابات محمد ديب تركز على فظائع وافعال الاستعمار، ولكنها تغوص عميقاً في مشكلات ما بعد الاستعمار في الجزائر كما ذكرنا، وتحاول ان تفتش في أعماق انسان المكان ناقدة وفاحصة ومبصرة للنوازع الخيرة والشريرة في ذلك الانسان. وهي تطرح الاسئلة العميقة، والدائمة ترى من أين تأتي هذه النوازع الانسانية بخيرها وشرها؟ وما هي الاسباب والدوافع، وقد عالج محمد ديب في كثير من رواياته وخاصة رواية «الشجرة تتحدث» مشكلات الغربة والمنافي البعيدة، وهو بهذا يمثل الكاتب ذا التجربة العميقة والحقيقية في حياة المنافي والهجرة والبعد عن الاهل والوطن، وهو الذي عاش اغلب حياته خارجه.
إن اغلب كتابات ونصوص محمد ديب كما يقول الناقد طاهر بكري، هي بمثابة رحلة داخل ذاته، رغم تنقله في اماكن ودول عديدة في اوربا واميركا، ورغم الحرية الفردية الموجودة في تلك البلدان، ولكنه ما كان يعير المكان والفضاء الجغرافي الخارجي اهتماماً بقدر ما يهتم بالغوص الداخلي في حياة البطل الغريب المهاجر بعيدا عن وطنه، وتأثير البعد عن هذا الوطن. رغم ان اغلب كتابات الكتَّاب ممن عاصروه في هذه المواضيع قد طبعت بطابع السياسة وسجن الايديولوجيا الضيق، الا ان كتابات محمد ديب قد ابتعدت عن هذه القيود وعن الوقوع في فخ السياسة والايديولوجيا، وقد كانت كتاباته تطرح السؤال المفتوح ولا تقدم الاجابة الجاهزة والمحددة. فالنص عنده يطرح الشك ويزلزل اليقين، رغم ان الشك الذي يطرحه يكون قادرا على ان يفتح عدة دروب لوجود الجواب الذي يمكن ان يجده القارئ والمتلقي في داخل نفسه وافكاره، وهذا الشك المفروض ان يهز كثيرا من المسلمات والمغلوطات واليقين المزيف الكاذب والحاجب للحقيقة والوصول اليها في حياته الاجتماعية والسياسية، لذلك كانت أغلب نصوصه وكتاباته تبتعد عن السهولة والضحالة والكتابة المستسلمة والمقيدة خاصة سجن الواقعية الاجتماعية التي تمجد وتدافع عن الخطأ الاجتماعي والعرف السائد دون الدخول في فجوات هذا الواقع، وسبر اغواره ومسبباته. وهو ما وقع فيه كثير من كتاب الرواية في العالم العربي كله. ان اغلى اعمال محمد ديب هي كتابة البحث عن الحقيقة وليس اعلانها والاستسلام لها حتى ولو كانت مزيفة. ونعني بها الحقيقة التاريخية، والسياسية والاجتماعية والما وراء طبيعية. ومحمد ديب يبدو في كتاباته صوت التنبيه والتحذير للمتلقي مستخدما في هذا تقنية السخرية والسخرية حتى من نفسه بالحوار الداخلي والخارجي، وهذا الصوت احيانا يأتي حتى من المثقف الذي من المفترض انه يعرف كثيرا من الحقائق اكثر من غيره وكأنه بهذا يريد ان يؤكد ان الفرد الذي تغيب عنه المعرفة والحقيقة تكون اخطاؤه دائمة ومتكررة وقاتلة وغير قابلة للاصلاح والتقويم.
ومحمد ديب في رواياته كأنما بطرحه لهذه الاسئلة غير المباشرة يستجوب الكون كله، فنصوصه ممتلئة بهذه التقنية الحديثة، تقنية طرح السؤال وليس تقديم الجواب الجاهز، وعن الدين والايمان والهوية والحب والمثالية واللغة والآخر، والخطاب والطبيعة والارض والتاريخ والحرب والذاكرة والمنفى والنسيان والوهم والايديولوجيا ومصير الانسان والانسانية كلها. وهذا يطرحه باسئلة عميقة وشجاعة، ورغم ذلك فنصوصه متسامحة وعاذرة للفعل الإنساني في ضعفه وقوته، في شره وفي خيره وهي نصوص مهووسة بالكشف العميق عن شر التعصب والنية اللا متسامحة عند كثير من البشر والناس. وهي تبحث عن النور والضوء، الذي ينير الدواخل الانسانية، ويبحث عن الامان والسلام الصوفي الداخلي في محاولة ان يكون هناك منار هادٍ ومرشد في أوقات الظلمة والرياح العاتية لكي ينقشع الظلام الداخلي، هذا الظلام الذي يعوق الرؤية الخارجية الصحيحة، وهذا العمى هو المسبب لأغلب المشكلات الانسانية في اطلاقها وعموميتها.
وكما يقول أغلب النقاد عن كتابات محمد ديب، فإن هذا الكاتب الكبير، يهتم وينظر للرأي المخالف والمغاير لافكاره وآرائه، ومنحاز للضعف الانساني والاخطاء والصغائر التي تحدث اثناء ممارسة هذا الضعف الانساني، فمحمد ديب لا يمجد الانسان السيوبرمان، انه يكتب الإنسان في قوته وضعفه في حبه وكرهه وفي لحظات روعه وخوفه ايضاً. هذا الانسان الذي يكون ذئباً وضحية ملاكا وحيواناً، كما وانه لا يعرض الرأي المغاير والمختلف عن الآخر، بطريقة تقريرية فجة، فهو يعرض الإنسان بنزاعاته الداخلية والخارجية، والمغايرة والمضادة للآخر، وهذه المغايرة والمخالفة للآخر لا يعرضها بمجانية او بسطحية مملة ومباشرة وبصراخ لغوي هتافي، فاللغة عنده هامسة كموسيقى هادئة وعميقة «اللغة السيمفونية» بحيث ان كل جملة هي ضرورة لما بعدها، ومكملة لما قبلها، فاللغة عنده نوتة موسيقية لا يمكن أن تتجزأ او تتنافر مع بعضها البعض «هارمونية اللغة» حتى أن الوقفة او الفراغ والصمت عنده يتحدث ويكشف بديلاً عن الحروف المكتوبة «الكتابة بالفراغات» كأنما يدعو القارئ لملئها وتكملتها. وهو فنيا في كتابته لا يستخدم ادوات الوقف والترقيم Ponctuation، ولذلك يعطي جمله ايقاعاً جديداً مختلفاً عن ايقاعات ولغة الآخرين. ومن ميزاته الاسلوبية والكتابية انه يستطيع ان يخلق جملاً نحوية ومقطعية غريبة ومدهشة، وهي تستطيع ان تقنع القارئ والمتلقي بها دون صعوبة وعناء ومشقة، وهي لا تقنعه فقط وانما تعجبه وتطربه. وهذه اللغة التي يكتب بها الجزائري محمد ديب تعتبر عملاً وابداعاً لغوياً ممتعاً وشيقاً، وغير خاضع للمقاييس والمعايير الكلاسيكية، وهو يصب في الكتابة التجريبية اللغوية والأسلوبية. وهو لا يرمي للحداثة والتجريب كغاية في حد ذاتها كما يفعل الكثيرون، وانما يطوع ويوظف هذه اللغة الجديدة في خدمة المعنى والمضمون والابلاغ والتوصيل. فهو كاتب غير منفصم ولا منفصل عن الواقع الاجتماعي والواقع الكتابي الذي يعيش فيه «واقع الكتابة الروائية» وقد كتب مقالاً مشهوراً مزامناً لصدور روايته «الليلة المتوحشة» التي صدرت في عام 9591م بعنوان «الكتابة الروائية والمسؤولية الأخلاقية والانسانية».
ويبقي السؤال الذي يتبادر عند النقاد والدارسين لادب محمد ديب: من أين تأتي له هذه اليقظة وهذا الانتباه؟ التي تقوده لمقاومة العنف واللا تسامح وديكتاتورية الرأي الواحد؟ وهذا ما جعله يركز على وطنه بوصفه نموذجا ومثالا للآخرين خاصة في بلدان العالم الثالث. والكاتب محمد ديب في اسئلته غير المباشرة واستجواباته عن الحقيقة، وخاصة في وطنه الجزائر يؤكد أن الادب والفن الحق هو ان يكون في خدمة الانسان والانسانية والاخلاق.. ولكن هل يمكن للادب أن يتحرر من مكبلاته ومادية الروح، وان تعود للطفولة الانسانية دورها الاول؟ وان يعود الحب الصافي؟ كما نادى بذلك في مجموعته الشعرية «طفل الجاز» التي صدرت في عام 8991م، والموسيقى في هذه النصوص تمثل القلب الانساني الصافي والنقي، وهذه البراءة والعودة الى الطفولة تمثل الحصن المنيع ضد القبح الإنساني، والبلسم الشافي ضد كل الآلام الانسانية. وفي رأيه ان الزنوج في الولايات المتحدة قد اخترعوا آلة وموسيقي الجاز كنوع من التحدي للسادة والمستشرقين، كما ان الشعر يعتبر نوعا من فعل وممارسة الحرية، وهو قد قال ذلك في مقدمته لهذا الديوان. ويقول دائماً إن الموسيقى بمثل ما هي تحرر الانسان في الداخل فإن الكتابة ايضاً تحرر الكاتب من اغلاله وقيوده. فعند محمد ديب فالكتابة خلاص ونجاة من كل الآلام البشرية التاريخية. إن الكتابة عنده تعتبر نوعا من التحدي لتحرير الانسان من كل المعوقات والمثبطات، وهي ترتبط بالطفولة الانسانية القديمة والخالدة، وبالجمال الانساني الخفي والمنسي في كل العهود والعصور. وهي التي تساعد في أن تبطل كل ما يهين الانسان في عزته وكرامته. وضد العبودية والاسترقاق والاستعمار والعنصرية والتخلف والحروب بكل انواعها. ومحمد ديب في كل دواوينه الشعرية التي اصدرها فهو يغني للعالم اغاني الطفولة البريئة الخالدة، تلك الاغنيات التي تحجب الالم وتتداويه وخاصة ثلاثيته الشعرية التي اصدرها اثناء اقامته في فنلندا «شرفات أورسول» 5891 و«نوم حواء» 9891م وثلوج الرخام»0991م، وهي تتحدث عن الحب والدفء الانساني وسط تلك البلاد ذات الصقيع والبرد القارس، وهو يعتبر ان من محاسن المنفى والمهجر للكاتب، ان يكشف لك آلام الآخرين، وان تتعلم أن العذاب هو القاسم المشترك للانسانية جمعاء، خاصة عندما يفتقد القلب الحب والحنان والمشاركة. ومحمد ديب يعتبر اللغة الفرنسية لغة كتابة تخلص لك وتعطيك اذا احببتها ولم تتعقد منها كلغة مستعمر سابق لبلادك، فاللغة عنده لا ذنب لها في ما فعله او ما يفعله اصحابها واهلها، واذا لم تحبها او تزيل هذه العقدة منك فإنها تصبح لغة الآخر، واذا اصبحت كذلك فإنك لا تستطيع ان تجيد وتستمتع بالكتابة بها. ان الحب بالنسبة للانسان الغريب والمهاجر هو كل شيء في حياته، فاذا افتقده فإن الارض والمكان والمال لن يعوضه ولن ينسيه فقدان الاهل والوطن.. واذا كان القلب متسعاً لحب الجميع فإنه يصبح جزيرة كبيرة وسط المحيط الكل يتطلع الى ان يراها ويحبها ويدخل فيها، وقد اصدر ديوانا كاملا بهذا المعنى «القلب الجزيرة».
فمحمد ديب يقول دائما إن هناك مضامين وثيمات خالدة لا يمكن أن تتجاوزها الكتابة. وهي أيضا لا يمكن ان تجد لها اجابات وردود قاطعة. كالحب والمآسي الإنسانية والالم والظلم، وتبقى عظمة الادب هي في اجر المحاولة، وتلك هي التي تكتب له البقاء والعظمة والخلود.
ان روايته الاخيرة التي صدرت قبل وفاته في عام 3002م التي اطلق عليها اسم «سيمورجة» قد حاولت ان تؤكد انحيازه المطلق للانسانية، ولقد ضمنها كل تقنيات الرواية الحديثة، حيث تجد فيها فن الحكاية والقصة القصيرة والقصيرة جداً وقصيدة النثر والخيال العميق وحكمة الفلسفة العميقة ايضا، وبهذا يعتبر محمد ديب من كتاب الإنسانية القلائل في العالم. وكعادته يوظف في هذه الرواية الذاكرة والماضي لقراءة الحاضر، منتقداً التعصب الاعمى وضيق الروح والقلوب المغلقة والمنغلقة عن الآخرين و«سيمورجة» هو طائر اسطوري وظفه رمزيا لخدمة فكره ورسالته غير المباشرة وغير المعلنة.. هذا الطائر المعروف بأنه محبوب ومقدر في أشعار الشاعر الصوفي الكبير، فريد الدين العطار في كتابه «لغة الطيور» والعصفور في هذه الرواية يمثل رحلة الكاتب الداخلية، والنفسية وتنقله في المنافي البعيدة، ومحمد ديب في هذه الكتابة الرمزية يستجوب الشرق والغرب، في الماضي البعيد والحاضر القريب، وهو يستعرض ثقافاتهم وحضاراتهم المختلفة وهو يغوص عميقاً في بحثه عن الحقيقة وعن مصير الانسانية، وعن العواطف المختفية وسط ركام المادية والحضارات الزائفة، وأكبر مدينة تخفي هذه العواطف هي باريس:
يا ليالي باريس الطويلة
كم أصبتيني بالمرارة والحسرة والملل
إنك للغريب منفى
جحيما وظلمة
عندما تلقى السماء ظلالها الرمادية على نهر السين
فالمسكين يستكين
وقلبه ينزف صارخاً مرتجفاً
كم لاجيء يا باريس لم يزدد ألمه ألماً
وليله ظلمةً عندما يسدل استاره
وإن مكانه ليس هنا 

------------

ونشر محمد ديب« الدار الكبيرة» سنة 1952، وفي سنة 1955 أضاف لها الجزء الثاني من الثلاثية« الحريق». ويعد محمد ديب رائداً للرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة باللغة الفرنسية، امتصت هموم الإنسان الجزائري، الذي كان الشعر والأدب الشفهي عامة هو زاده الروحي الرئيسي. وتأتي ثلاثيته في مقدمة الأعمال التي تؤرخ لمولد الرواية الجزائرية، وكما مثلت سيرة شخصية لصاحبها، مثلت« مذكرات الشعب الجزائري» هكذا وصفها أراجون، أو هي الجزائر نفسها كما قال معظم النقاد، فهي تتناول حياة العمال في المدينة، وحياة الفلاحين في القرية، وتنتهي إلى« أن النار قد بدأت ولن تتوقف أبداً. إنها تستمر مشتعلة ببطء وبعماء إلى أن تعم ألسنتها الدموية البلاد كلها بحرارتها المدمرة»
وبصورة عامة لا تخرج الدار الكبيرة عن أطر تقاليد الكتابة عن العادات التي يمثلها معمري وفرعون أحسن تمثيل، وقد صور ديب في هذه الرواية الحياة اليومية لحي في المدينة، من خلال إدراك طفل يكون العالم بالنسبة إليه جديداً وممتعاً، برغم جوانب الحياة المأساوية؛ من بؤس وجوع وعسف السلطات الاستعمارية، كما أن أسلوب الرواية أكثر حداثة من أسلوب فرعون ومعمري، فهو وجيز ومعبر، وفي الوقت نفسه فإنه مشبع بالمشاهد المطولة، تلقي بعض الظلال بشكل غير مفيد، على مقاطع تمثل نموذجاً رائعاً في الوضوح، وتتعاقب شاعرية خفيفة مع نزعة طبيعية. ويخلف الإحساس باليأس والخوف الصوفي الإدراك المادي الجلي للعالم. ويتابع ديب في الثلاثية رصد سيرة بطله« عمر»، ويقرر أن يضيف إلى قصته المتواضعة معلومات اجتماعية مستفيضة، عن طريق التصريح وليس التعبير، ملمحاً بذلك إلى المعارك الطبقية القادمة، وإلى دور العمال البارز، وواعداً بتحولات اجتماعية قريبة. ويفقد بوضوح ديب، الذي وقع تحت سطوة القالب الذي استعاره من الروائيين الفرنسيين المعاصرين، اهتمامه بالبطل نفسه، وتتحول قصة حياة عمر وعلى الأخص في النول إلى تراكم لتفاصيل صغيرة وشاحبة، ينضفر منها نسيج الرواية الطويل وغير المعبر. ولم يتح لعمر رغم أنه كبر أن يصبح راشداً فيفقد تدريجياً ليس السمات الشخصية لطبعه فحسب، لكن كذلك كل ميزاته الفردية. حقاً إن فقدان البطل في« الحريق» يعوض لحد ما، بتصوير شاعري لرحاب الريف الجزائري وسكانه، الذين يحملون فكرة ضرورة الكفاح من أجل مستقبل أفضل.
تتوقف الثلاثية عند أعتاب« النبوءة» بما سيكون، تاركة ما كان إلى روايته، التي صدرت عام 1959 تحت عنوان« صيف إفريقي» وتتميز هذه بإحكام فني شديد، يتجاوز به ديب حدود الزمان والمكان، يواكب الثورة الجزائرية التي اندلعت، ويعمد إلى اختيار نماذجه من« الجزائر» كلها؛ يختار التاجر وصاحب الأرض والموظف الصغير، والطالبة والخادمة والفلاح، يختار أيضاً الثوري والخائن والمتردد، ويختار« فرنسا» بكل ما يمثل استعمارها من قيم تخون الثورة الفرنسية يختار لها وجهها الهمجي المتوحش، الذي يعبث بكل قيمة. لا يعمد ديب في بناء «صيفه الإفريقي» إلى العقدة الكلاسيكية بل ينسج بناءه الفني من الشخصيات13.
لقد كانت رواية« من يذكر البحر» 1962 انقلاباً جمالياً جزائرياً، تولد عن خروج ديب من عباءة بلزاك من أجل صياغة طرق كتابة رؤيوية جديدة، قائمة على الحكم كبديل للواقعية والتوثيقية، كان دخول الرواية ورشة الأحلام مع ديب، أنقذ المتن الجزائري بالفرنسية من إيديولوجية« كالوظيفة» وأدخل الروائيين في مغامرة مع العالم والكتابة. تدخل ديب بجرأة إشكالية حديثة. وتسحق هنا تماماً المقولات الكلاسيكية للتمثيل الروائي، التي كانت سائدة في الثلاثية: زمن خطي ذو اتجاه واحد يرسم منحى مصير، شخصيات تتوافق مع نماذج اجتماعية، وصف ذو وظيفة درامية وقيمة أخلاقية، حبكة تنظم القصة، رؤية موحدة للمؤلف –الرواية الكلي- المعلم. إن الوظيفة الاتصالية التي يقيمها الراوي من خلال نصه، مع المتلقي المفترض تغير شكلها ووظيفتها، فمن وظيفة موجهة جوهرياً إلى القارئ قصد التأثير عليه، تكتفي من الآن فصاعداً بأن تقترح عليه مشاركة في البحث عن معنى.
وفعلاً فتجربة الحدود التي يخوضها المؤلف، يخدمها السحري على طريقة كافكا، الذي يعالج اللامعقول كجزء من الحياة، حياة كابوسية، وتغزو الكثير من أساليب العجيب والسحري هذه القصة الخيالية، التي تنبذ الواقعية وتبعد المرجع الاجتماعي الرمزي ، ما هو إلا نتيجة لعمل نصي يأخذ المعنى المجازي بكل حرفيته، ويعرف تطورات غير متوقعة، لكنها تخضع لمنطق معين. رواية« من ذا يذكر البحر» وعن طريق نفس عملية استغلال استعارة التوحش بالمعنى الحرفي، شخصيات أسطورية تمثل غزاة المدينة القديمة. ومنذ ذلك الوقت فمن الطبيعي أن يصبح الصراع القائم بين حماة البناءات الجديدة وسكان المدينة القديمة ضرباً من السحر، يحتفل به سرياً من خلال طقوس مؤذية، صحبة جوقة من الكلاب والانفجارات المرعبة14.
إنها إرادة الاكتشاف وانتزاع الفنان لمكانته الخاصة في جوقة الأدب العالمي، التي تدفع هذه الانعطافة في جماليات محمد ديب. ولهذا السبب يرافق هذه المحاولة الجديدة عمل فكري حول الأدب، وتشاطر بذلك اهتمامات موجة الرواية الجديدة، التي كانت تحتل آنذاك مقدمة الساحة الأدبية في فرنسا. لكن لا ينبغي الخلط بين مقاصد المؤلف وشكلانية معاصريه الفرنسيين، فهو يعبر قصداً عن رؤية للعالم مختلفة في جوهرها عن رؤيتهم، ومن وجهة النظر هذه أعلن ديب عن انتقاله إلى رؤية جديدة للعالم في ذيل روايته« من يذكر البحر»، وقد صيغ وداع الماضي في هذه الرواية أكثر صراحة، ويتخلى عن المنهج الذي يسمى واقعياً، ويعلن سطحيته وعجزه عن إنارة الهوة المظلمة بأضواء كاشفة، كما يتخلى عن تثبيت الأحداث، وتصوير الحياة المحسوسة والصدق، ويعتبر أن مهمة الفنان هي نقل الهلوسات والنزوات الباطنية، التي تعبر عن وجهة نظره الحقيقي للإنسان، وتميز وضعه في العالم المعاصر15.
فالرواية في« من يذكر البحر» يبرز أكثر من قلق ويستشف أكثر من خطر، يترصد مستقبلنا عن طريق البحث عن الحقيقة التي تميزه، ويحدد البحث الذي يقترحه النص مثلاً في مجالين مفضلين، هما التصوف وانعتاق المرأة، وكذا الصراعات الإيديولوجية في جزائر ما بعد الاستقلال. تريد« الرواية الجديدة» لمحمد ديب بالضبط تجاوز حدود تقاليد« الواقعية» وهذا يقود المؤلف قبل أن يحكم طلقته، إلى تفضيل اللامعقول أساساً، وإلى إنتاج رؤية شبه فصامية للواقع المؤسس على تفرغ ثنائي أساسي بين الإنسان والأشياء. والواقع أن الجنون الذي يتحكم في العالم في زمن الحرب، يمكن أن يضفي مصداقية معينة على رؤية كهذه. فبينما تستسلم المدينة ظاهرياً للعمى العبثي لعنف بلا رحمة، يظل الأبطال الإيجابيون يتمتعون بصحو يأتيهم ليس من فهم عقلاني للأحداث، لكن من معرفة خفية نقلت عبر مسالك غامضة، تظهر في أثناء احتفالات يتعذر شرحها. ويقيم هذا الرمز، الذي يعده العمل الأدبي جوهرياً، صلة سحرية بالعالم الذي يربط من جديد، وراء العقلانية اللائكية للمثقف، الذي كونته المدرسة الفرنسية بالروحانية، التي تسبح فيها السلوكيات الشعبية لمواطنيه، ومن هذا الجانب الصوفي الذي يستغله عمل الكتابة, وهذا الغموض في المعنى واستعصاء فهمه في المجال الديني، يلتقي بنفس المفترض في المجال الجمالي، ويساهم في دعم العالم الأسطوري، الذي يقترحه عمل محمد ديب الأدبي كحاجة عن التساؤل السياسي والوجودي.
ويصبح من الآن فصاعداً هذا الانتباه إلى الظاهرة الصوفية والباطنية بعداً جوهرياً لنص محمد ديب الروائي. وفي« رقصة الملك» يتحول إلى عنصر للتأمل، يعيد رضوان بواسطته تشكيل وجوده المهدد بالانفصال والانطواء ويتطور في رواية« الله في بلاد البربر»، حيث تطرح« خصوصية» الشعب الجزائري. والواقع أنه ليس من المهم بالدرجة الأولى أن يكون تمفصل السياسي والأسطوري مثلاً في مؤلفات محمد ديب، صحيحاً من وجهة نظر التحليل التاريخي الدقيق للظاهرة، ما دام الأمر يتعلق برؤية أصيلة متوقفة على مكانة محمد ديب الخاصة جداً، في المجتمع كفرد وكاتب في آن واحد. ومن هذه المكانة يعالج محمد ديب المسألة النسوية، التي مثلها مثل المسألة الدينية، لا يمكن لأي نقاش أو تفكير في المجتمع الجزائري المعاصر أن يتفاداها. وكان من اللازم انتظار« رقصة الملك» للعثور على بطلة: إنها عرفية المجاهدة القديمة في حرب التحرير، التي تؤكد نفسها على ساحة النص كموضوع فردي مستقل، وتكون صورتها سليمة من أي ابتذال. وهي نظرة تجمع بين التسامي بالمرأة وبغضها. وعرفية مثلها مثل نفيسة، التي تنتمي على الأقل إلى عالم خيالي، فهي مصداقية ليس باقترابها من الحقيقة، لكن بحقيقتها كتجسيد لتطلعات الانعتاق النسوي
تأثر محمد ديب بعيد بالكاتبة« فرجينا وولف» ولا سيما بكتابيها« الأمواج، وإلى المنارة» وأن وسيلة تيار الوعي لهذه الكاتبة هي التي تركت صداها العميق في روايته «رقصة الملك» فنرى شخصيات تلك الرواية تثير التساؤلات حول سخافة الحياة، وتتأمل مرور الزمن معبرة عن رغبتها بإيقافه، مثلما تفعل شخصيات رواية«الأمواج» ورضوان هو الشخص الذي يجسد هذا الموقف من خلال إثارته ذكرى حياته الماضية. وتساؤلاته حول المستقبل. وقد تعرف ديب قبل تأثره بوولف على الكتاب الفرنسيين، وكان شعراؤه المفضلون«مالارميه وفاليري»، ومنهما استقى أسلوباً نقياً ميز شعره ورواياته.
وهذه المرحلة الثانية من إنتاج محمد ديب الروائي، هي إذن مرحلة يوسع فيها التماثل من الواقع، المبعد من خلال مزج الاصطلاحات الرمزية والأسطورية والواقعية، مشروع شهادته المؤرخة في الثلاثية، إلى مقصد أكثر شمولية وغموض. وفي الوقت ذاته يتمسك البحث الأدبي لمحمد ديب، بشحذ أداة روائية جديدة قادرة على ترقية تعبير متحرر من المتطلبات البلاغية واستغلال الوظيفة الخيالية. وهو المشروع الذي يستمر في« ركض على الضفة المهجورة» في شكل بحث سوريالي، متعمد يخلق ميثيولوجية شخصية قوية، تتخذ من خلال الإحاطة بالواقع صيغة ذاتية للغاية، ومنها استئناف وتطوير مشروعه الروائي بعد الاستقلال. يبرز كقطيعة مع المرجعية الاجتماعية التاريخية، وتجريب الأدب في بعده الخيالي الخالص.
إن القاسم المشترك بين روايات ديب الأخيرة هو البطولة المشتركة، وبعض السمات الشاعرية المتشابهة، وقبل كل شيء المونولوج، أو الحوارث الداخلية لكثير من الأشخاص، التي تعبر عن وجهات نظر مختلفة حول طريقة إنقاذ البلاد، كما أن هناك أمراً مشتركاً بينها، هو بحوث الأبطال المولعة واصطداماتهم.
منذ عام 1962، فاجأ ديب قرّاءه بتغيير مفاجئ في مسيرته الروائية، فقد أصدر روايته« من ذا الذي يذكر البحر» وكانت شبيهة بروايات علم الخيال –الواقعية الخرافية، التي التزم بها الكاتب طوال حياته الأدبية، حيث أصبحت رمزية غارقة في الغموض والشاعرية. في رواياته الأخيرة سما ديب بالثورة الجزائرية إلى قمة التصوف« الرمزي الخيالي»، صار الاستعمار آلات وحشية غريبة، كأنها تنزل من كوكب بعيد، وفي مواجهتها كان الثوار بشراً متمردين، يقاومون بأسلحة صغيرة لكنها سرعان ما تخرق الصمت، وتذيب صلب الآلات الوحشية. وبعد هذه الرواية واصل« تصوفه الخيالي» خاصة في« الجري وراء الضفة الأخرى» ورواية «سطوح اورصول». في هذه الروايات ظهر«أدب المنفى» واضحاً لدى الكاتب، والبطل ينتهي إلى العزلة التامة والضياع القاتل، وتنتهي رواياته بمونولوجاتها الطويلة المليئة بالأسئلة الثاقبة للذاكرة العائدة.
فإذا كان ديب في رواياته الأولى يكتب عن العادات والتقاليد في الأغلب، فهو الآن يعمل مع أوهام الخيال، ويترك هذا التحول انطباعاً عن حيرة الفنان. إن هناك تناقضاً كبيراً في الإبداع السابق لمحمد ديب، ينبئ بتطوره المعقد، الذي ما زال مستمراً على ما يبدو إلى يومنا هذا.


-----------------------------------


مفدي زكرياء و ادبه


1 - حـيـاة الـشـاعــر :
ولـد مـفـدي زكريـاء سـنـة 1908 بـ "بـنـي يـزقـن" غـردايـة، حـيـث بـدأ حـيـاتـه الـتـعـلـمـيـة فـي الـكـتَّـاب بـمـسـقـط رأسـه فـحـصَّـل عـلـى شـيء مـن عـلـوم الـدّيـن والـلـغـة.
ثـمَّ رحـل إلـى تـونـس وأكـمـل دراسـتـه بـالـمـدرسـة الـخـلـدونـيَّـة ثـم الـزَّيـتـونـة، وعـاد بـعـد ذلـك إلـى الـوطـن وكـانـت لـه مـشـاركـة فـعَّـالـة فـي الـحـركة الأدبـيـة والـسـيـاسـيَّـة ولـمَّـا قـامـت الـثـورة إنـضـمّ إلـيـهـا بـفـكـره وقـلـمـه، فـكـان شـاعـر الـثـورة الـذي يردّد أنـاشـيـدهـا وعـضـوًا فـي جـبـهـة الـتـحـريـر، مـمَّـا جـعـل فـرنـسَا تَـزُجُّ بـه فـي الـسـّجـن مـرّات مـتـوالـيـة، ثـمّ فـرّ مـنـه سـنـة 1959 . فـأرسـلـتـه الـجـبـهـة خـارج الـحـدود فـجـال فـي الـعـالـم الـعـربـي وعـرَّف بـالـثـورة، وافـتـه الـمـنـيّـة بـتـونـس سـنـة 1977، ونـقـل جـثـمـانـه إلـى مـسـقـط رأســه، مـن آثـاره الأدبـيـة "الـلَّـهـب الـمـقّـدس" وديـوان شـعـر جـمـع فـيـه مـاأنـتـجـه خـلال الـحـرب، فـكـان شـاعـر الـثـورة .

مقطع من قصيدة الفجر

- أ -
تَـأَذَّنَ رَبُّــكَ لَـيْـلَـةَ قَــدْرِ *   وَأَلـقَى الـسّـتَارَ عَـلى أَلْـفِ شَـهْـرِ
وقَـالَ لَهُ الـشَّعْـبُ أمْرُكَ ربـي  *  وَقَـالَ لَـهُ الـرَّبُ: أَمْـرُكَ أَمْـرِي 
- ب -
وَدَان القصَاصُ فِـرَنْـسَا العَـجُـوز
وَلَعْـلعَ صَوْتُ الـرَّصَـاصِ يُـدَوّي
وَتَأْبَي الـمَـدَافِـعُ صَـوْغَ الكَـلاَم
وَتأْبَى الـقَـنَـابِلُ طَـبْـعَ الحُروفِ
وَتَأْبَى الصَّـفَـائِحُ طَبْـعَ الصَّـحـا
وَيَـأَبَى الحَـدِيُدِ اسْـتِمَاعَ الحَدِيـثِ بمَا اجْتَـرَحَتْ مِـنْ خِـدَاعٍ وَمَكِـرْ
فعافَ الـيَـرَاعُ خُـرَافَـاتِ حِـبـر
إِذا لـمْ يـكُنْ مِـنْ شُـوَاظٍ وَجَمْـرِ
وَ  اذَا لَمْ تَـكُـنْ مـنْ سَـبـائِك  حُمْرِ
ئِفِ مَـالَمْ تَكُنْ بِـالقَـرَراتِ تَسْـِرْي
إِذَ الَـمْ يَكُـنْ مِنْ رَوَائِـعِ شِعــرِي

- جـ -
نُـوفَمْبَـرُ غَيَّـرْتَ مَجْرى الحَيَاةْ
وَ ذَكَّـرْتَـنَا- فِي الجَزَائِر- بَدْرًا وَكُـنْتَ-  نُـوفَمْـبَرُ- مَـطْلَعَ فَجْر
فَـقُـمْـنَا نُضَاهِي صَـحَابَةَ بَـدْرِ

شَـغَـلْـنَـا الـوَرَى، وَ مَـلأْنَـا الـدُّنَـا
بِـشـعْـرِ نُـرتّـلُـهُ كَـالـصّــــلاَهْ
تَـسَـابِـيـحُـهُ مِـنْ حَنـَايَـا الجَـزَائِـرْ

- الـمـنـاسَــبـة :
بـرغـبـة مـن الـشَّـاعـر فـي الـكـتـابـة واقـتـراح مـن الـسـيـد مـولـود قـاسـم نَـظَـمَ إلـيـاذة فـي ألـف بـيـت فـهـي ألـفـيَّـة فـي مـائـة مـقـطـع، فـي كـل مـقـطـع عـشـر أبـيـات سـجَّـل فـيـهـا تـاريـخ الـجـزائـر الـقـديـم والـحـديـث كـمـا سـجَّــل مـآسـي الـشـعـب الـجـزائـري الـتّـي لـحـقـت بـه خـلال الـثـوّرة الـمـظـفـرة والـمـعـارك الـبـطـولـيـة الـتـي خـاضـهـا ضـد الـطـغـيـان فـكـانـت مـلـحـمـة بـحـق. والـنّـص صـورة نـاطـقـة عـلـى ذلـك 


- الـشـرح الأدبـي للأبـيـات:
تـنـاول الـشـاعـر الـحـديـث عـن لـيـلـة انـفـجـار الـثـورة وجـعـلـهـا لـيـلـة الـقـدر لأنَّـهـا انْـبَـثـاقُ لـنُـور الـحـرّيـة والإنـعـتـاقِ عـن طـريـق الـكـفـاح تـحـت رايـة الله أكـبـر إلـى أن تـحـقـق الـنَّـصـر، كـمـا أشـعَّ نـور الإيـمـان بـنـزول الـقـرآن فـي لـيـلـة الـقـدر التي هـي خـيـر مـن ألـف شـهـر.
وقـد أذِنَ الله لـهـذا الـشـعـب أن يـقـتـصّ مـن فـرنـسـا ويُـذيـقَـهـا الـهـوانَ جـزاءَ مـا ارتـكـبـتـه فـي حـقـه مـن مـظَـالـم، وكـانـت الـلـغـة الـتـي خـاطـب بـهـا الاحـتـلال هـي لـغـة الـسِّـلاح والـرَّصـاص، وصـوت الـمـدافـع لا مـا تـخـطّـه الأقـلام كـمـا أبـت الـمـطـابـع أن تـطـبـع الـصّـحـف إلا إذا كـانـت تـسـايـرهـا قـرارات الـتّـنـفـيـد، كـمـا أن الـسّـلاح يـأبـى أن يـسـتـمـع إلاّ إلـى شـعـر الـثـورة والـدّعـوة إلـى الـجـهـاد.
وهـكـذا ... فـلـغـة الـتـخـاطـب مـع الـعـدوّ لـيـسـت إلا الـسّـلاح ودويّ الـمـدافـع والـقـنـابـل الـرشـاشـة والـقـذائـف الـمـحـرقـة، وهـو الـشـعـر الـذي يـتـغـنَّــى بـه الـمـجـاهـدون كـمـا أنَّـه الـلَّـغـة الـتـي لا يـمـكـن أن يـتـجـاهـلـهـا الـعـدوّ.
فـنـوفـمـبـر كـان مـطـلـع فـجـر جـديـد لـعـالـم الـحـريـة والإسـتـقـلال، وبـه قـد تـغـيّـر مـجـرى الـحـيـاة وقـد كـان بـمـثـابـة بـدر الـكـبـرى مـن حـيـث إنـقـلاب الأوضـاع والـمـوازيـن فـامـتـلأت الـدنـيـا بـذكـر الـثـورة الـخـالـدة الـمـنـبـعـث مـن حـنـايـا الـجـزائـر.

الـقـصـدة مـن الـشـعـر الـمـلـحـمـي، الـذّي يـتـغـنَّـى بـالـبـطـولات والأعـمـال الـمـجـيـدة والـمـنـاقـب الـوطـنـيـة الـحـمـيـدة، والـشَّــاعـر يـتـغـنَّـى فـي هـذه الـقـصـيـدة بـلـيـلـة غـرّة نـوفـمـبـر الـمـجـيـدة، فـأَكْـرم بـهـا مـن لـيـلـة وأَجْـمِـلْ !..
- دراسـة الأفـكـار:
الأفـكـار الـواردة فـي هـذا الـنّــص أفـكـار بـسـيـطـة واضـحـة لا غـمـوض فـيـهـا ولا تـعـقـيـد وهـي مُــرتـبـة تـرتـيـبـا طـبـيـعـيًـا تـتـوافـر فـيـهـا الـوحـدة الـعُـضـويـة والـمـوضـوعـيـة وتـنـمُّ عـن عـاطـفـة بـطـولـيـة صـادقـة وإيـمـان راسـخ بـمـسـتـقـبل زاهـر وفـخـربـمـا نـالـتـه الـجـزائـر مـن شـهـرة عـالـمـيـة، جـعـلـت مـنـهـا قـدوةً مـثـلـى لـلـتـحّـرر والإنـعـتـاق مـن الإحـتـلال الأجـنـبـي بـجـمـيـع أشـكـالـه.
فـالـقـصـيـدة تـسـيـل عـذوبـة وسـلاسـة وتـطـغـى عـلـيـهـا الـمـوسـيـقـى الـرّنَّــانـة .
- الأسـلـــوب :

أسـلـوب الـنّـص قـوي ورصـيـن، عـرف الـشـاعـر كـيـف يـخـتـار الألـفـاظ الـمـعـبَّـرة عـن الـمـعـنـى مـثـل قـولـه : الـرّصـاص - الـمـدافـع - الـجـمـر - الـقـنـابـل - لـعـلـع -الـحـديـد - يـدوي، وهـي كـمـا نـلاحـظ ألـفـاظ قـويـة ومـدوّيـة تـبـعـث فـي الـقـارئ حـمـاسـًا قـويًّـا يـتـلاءم وروح الـنَّـصِّ.
أمَـا الـعـبـارات فـقـد جـاءت فـصـيـحـة واضـحـة تـمـام الـوضـوح، مـثـل : لـعـلـع صـوت الـرّصـاص - تـأبـى الـمـدافـع - يـأبـى الـحـديـد - سـبـائـك حـمـر ...إلـخ وقـد وردت فـي الـنَّـص عـبـارات الـتـحـقـيـر والـّسـخـريـة مـثـل :
فـرنـسـا الـعـجـوز .. وبـصـفـة عـامـة فـإن الـقـارئ يـشـعـر بـنـشـوة واعـتـزاز عـنـدمـا يـطـالـع نـصّـا كـهـذا يـمـجـد الـثـورة ويـشـيـد بـمـا فـعـل آبـاؤه وأجـداده بـالـعـدوّ ومـا سـجَّـلـوه مـن بـطـولـة وتـضـحـيـات.

كـان فـي حـالـة انـتـشـاء بـمـا فـعـلـه أبـطـال نـوفـمـبـر، فـأخـذ يـسـرد حـقـائـق تـهـزّ الـنّـفوس، كـقـولـه : "نـوفـمـبـر غـيـَّرت مـجـرى الـحـيـاة لـكـن هـل اسـتـعـان بـالأسـالـيـب الـبـيـانـيـة لـتـوضـيـح الـمـعـانـي وتـقـريـبـهـا مـن ذهـن الـقـارئ ؟ 
نـعـم، لـقـد اسـتـعـان الـشـاعـر بـالأسـالـيـب الـبـيـانـيـة لـتـوضـيـح الـمعـنـى وتـقـريبـه مـن ذهـن الـقـارئ كـقـولـه : " لـيـلـة الـقـدر" إذ فـيـهـا تـشـبـيـه بـلـيـغ حـيـث شـبَّـه لـيـلـة نـوفـمـبـر بـلـيـلـة الـقَـدْر فـي الـفـضـل والـبـركـة (كـنـت مـطـلـع فـجـر) أيـضـا تـشـبـيـه بـلـيـغ، فـقـد شـبـه نـوفـمـبـر بـنـور الـفـجـر فـي الـوضـوح والإشـراق، أمـا الإسـتـعـارة فـقـد وردت فـي قـولـه (تـأبـى الـمـدافـع) اسـتـعـارة مـكـنـيـة حـيـث شـبـه الـمـدافـع بـالإنـسـان ثـم رمـز إلـيـه بـشـيء مـن لـوازمـه وهـو الـرَّفْـضُ بـجـامـع الإمـتـنـاع فـي كـل عـلـى طـريـق الإسـتـعـارة الـمـكـنـيـة .
وفـي قـولـه : شـغـلـنـا الـورى، كـنـايـة عـن صـدى ثـورة الـجـزائـر فـي الـعـالـم.
ثـمَّ لـم يـبـق سـوى أن نـحـيـلـك إلـىقـراءة الـقـصـيـدة مـرّة أخـرى لـتـكـشـف صـورًا بـيـانـيـة أخـرى بـنـفـسـك، ويـطـلـب مـنـك بـعـدهـا تـلـخـيـص الـتـحـلـيـل الـذي تـعـرفـت عـلـيـه لـهـذا الـنـص، ضـع إجـابـتـك هـنـا ------
- قـارن إجـابـتـك بـالإجـابـة الـتـالـيـة:- 

- مـجـمـل الـقـول
الـقـصـيـدة مـن الـشّـعـر الـمـلـحـمـي الـتـحـرّري، فـالـمـلـحـمـة غـرض قـديـم، أمَّـا الـشـعـر الـتـحـرّري، فـغـرضـه حـديـث ظـهـرمـع ظـهـور الـحـركـات الـتـحـرّريـة فـي الـعـالـم.
تـنـاول الـشـاعـر فـي هـذا الـنّـص جـانـبـا مـن جـوانـب مـلـحـمـة الـشـعـب الـجـزائـري ضـدّ الإسـتـعـمـار والـمـتـمـثـلـة فـي ثـورة نـوفـمـبـر الـتـي غـيـرت مـجـرى تـاريـخ الـجـزائـر الـحـديـث. فـالأفـكـار وردت مـرتـبـة تـرتـيـبـا مـنـطـقـيـا وهـي ذات مـعـنـى عـمـيـق.
أمـا الأسـلـوب فـجـاء رصـيـنـا مـحـكـمًـا قـويًـا فـالألـفـاظ فـخـمـة مـوحـيـة، مـلائـمـة لـلـمـعـنـى وقـد اعـتـمـد الـشـاعـر عـلـى الأسـلـوب الـخـبـري الـمـنـاسـب لـسـرد الأحـداث والـصـفـات الـمـنـاسـبـة لـهـا .. كـمـا اخـتـار بـحـرالـمـتـقـارب كـقـالـب لـمـلـحـمـة الـجـزائـر الـفـذَّة، والـبـحـر يـتـكـون مـن تـفـعـيـلات أربـع فـي كـل شـطـر.  

فـعـولـن فـعـولـن فـعـولـن فـعـولـن *                    
                                  فـعـولـن فـعـولـن فـعـولـن فـعـولـن.

-----------------------------------

دراسة تحليلية لشعر مفدي زكرياء

قد يبدو لأول وهلة أن الظرف غير مناسب لتقديم ديوان شاعر ينتسب إلى الجزائر، إلا ان شفيعي في تقديمه أن المغاربة ـ وإن أساء إليهم حكام هذا القطر، واتخذوا منهم موقف من لا يرعى للجار حرمة ولا يحفظ للقرابة ذمة ـ ظلوا حريصين على صلتهم بالشعب الجزائري الشقيق، وبقيت هذه الصلة عندهم تمتاز بكرم الشيم ونبل المشاعر. وشفيعي كذلك ان صاحب الديوان ـ وهو الذي أشاد بوحدة أقطار المغرب العربي منوها بها ابلته هذه الأقطار من بلاء حسن في سبيل تحريرها وبما أصلته من مفاخر وأمجاد ـ ياسى لاشك أسى جارحا لما يتنكر له أولئك الحكام من مبادئ وقيم، ويالم الما مبرحا لما يصيب صرح امانيه الشاسعة العذاب من انهيار واندثار. وشفيعي بعد هذا ان الشاعر صب ببلادنا معجب شديد الإعجاب بما تحققه في مضمار التقدم والرقي. وقد أضفى على تلك الصبابة وهذا الإعجاب حللا شعرية رائعة تستحق ان يقف حيالها القارئ المغربي وقفة التملي والاستمتاع.
على أن هذا الظرف بالذات ربما كان انسب الظروف لتقديم هذا الديوان الطافح بألوان من عواطف الإخلاص والوفاء وأصناف من مشاعر التقدير والإكبار لوطننا الذي تتربص به أسوأ الدوائر فتنة لا تقيم وزنا لمكارم الأخلاق.
وأود في بداية هذا التقديم أن أسجل حقيقة ليس في ظني من ينكرها، وهي أن مفدي زكرياء شاعر الجزائر الأول وشاعر ثورتها دون منازع. فقد كان لسان حال بلاده منذ بدا يدب الشعور الوطني والقومي في شعبها المكلوم، حيث اخذ يوعيه بحقيقة تاريخه وواقع وجوده، ويبث فيه من نفح البطولات والأمجاد تموجات تهز إحساسه بالذات والكرامة، وتحثه على التطلع لاستشراف المستقبل واسترداد الأمل، ومن تم للتمرد والتوثب لاسترجاع الحق السليب.
وكان مفدي في سنوات الثلاثين، وهو يعمل في الصفوف الوطنية، داخل هيئة «نجم شمال افريقيا» ثم «حزب الشعب الجزائري» يحمل لواء النضال، يحض على الثورة ويدعو لها غير قانع بالعمل السياسي الذي كان يهنهض به الحزب في نطاق التوعية الوطنية والتعبئة الشعبية.. ولعل نشيد «من جبالنا» خير برهان على ذلك، قد وضعه سنة 1932 وظل ابناء المغرب العربي يتداولونه خلال سنوات الكفاح الطويلة. ومثله النشيد القومي الذي نظمه في السحن عام 1937، وكانتجبهة التحرير قد أصدرت الأمر سنة 1956 إلى المحكوم عليهم بالإعدام ان يرددوه قبل الصعود للمقصلة باعتباره النشيد الرسمي للشهداء، وهو الذي أوله:
اعصي يا رياح                  واقصفي يا رعود1
والشاعر زكرياء ـ وهو مرهص الثورة ومنمي مخاضها ومفجر انطلاقتها ـ لم يكن ليفاجأ بها عند اندلاعها، كما لم يكن ليحاول استجماع قواه حتى يسايرها كما فعل الكثيرون، ولكنه كان في طليعتها يتبادل مع المجاهدين شحنات التعبئة في تجاوب بي وقع الكلمة الصادقة المنغمة وإيقاع السلاح الصاخب المدوي في قمم الجبال ومخابئ السهول ومختلف قلاع الفداء والنصال، وكان بذلك مستعدا لينعطف بشعره في خط سير متطلع رائد، يستكشف ويستشرف ليعطي الثورة أبعادا تاريخية يرتبط بها مصير شعب يولد من جديد، وكان في هذه المرحلة يبدو وكأنه يلوذ بالصمت او يدعو له، خاصة حين يقول: 
   نطق الرصاص فما يباح كلام
                           وجرى القصاص عما يتاح ملام
أو حين يضيف مستلهما أبا تمام:
السيف أصدق لهجة من احرف
                        كتبت فكان بيانها الابهام2
ولكنه في الحقيقة لم يعبر كذلك إلا ليبرز مدى عالية الكفاح المسلح في تقديس لمعداته:
   وتكلم الرشاش جل جلاله
                           فاهتزت الدنيا وضج النير
   وتنزلت آياته لهابة
                           لواحة أصغى لها المستهتر
   والنار للالم المبرح بلسم
                          يكوي بها الغظم الكسير فيجير3
وهو بذلك يعرب عن انصهاره في الثورة إلى حد يجعله داخل سجنه يصعد مدها الهادر بالكلمة الصاعقة يخترق صداها جدرانه ليدوي في كل مكان، ويصعد هذا المد كذلك حتى حين ينتشي بما يلقي من محنة وعذاب في نفس روماني حالم على غرار ما نقرا له في قصيددته «الذبيح الصاعد» ومطلعها:
   قام يختال كالمسيح وليدا
                        يتهادى نشوان يتلو النشيدا4
وواكب مفدي مسيرة الجهاد يغنيها ويحثها وينظم لها القصائد والأناشيد، وفي مقدمتها نشيج «فاشهدوا»5 الذي اصبح النشيد الرسمي للثورة، ونشيد «عشت يا علم»6 الذي غدا التحية الرسمية للعلم الجزائري، وكلاهما من إبداع الشاعر في السجن،، وقد أتيح له أن يجمع كثيرا من تلك القصائد والأناشيد في ديوانه «اللهب المقدس»7، وان يتوج شعره في حرب التحرير الوطنية بنشيد الأناشيد أو الياذة الجزائر8.
من هذا المنطلق «الجزائري» والمنظور «الثوري» لم يكن يرى الشاعر قضية بلاده ـ نضالا ومصيرا بل وجودا واستمرارا ـ إلا مرتبطة بالمغرب العربي الكبير، وفي احضان شقيقتيها المغرب وتونس، فغدا يتغنى بوحدة هذه الأقطار، رافعا لواءها منشدا مشيدا:
   وتغنيت منذ فجر شبابي
                     بالتحام القوى ودعم الجهود
   لم أزل صادحا على كل غصن
                     من ربي المغربي الكبير العتيد9
                        ***
   انا في المغرب الكبير نشيد
                     يرامى صداه للاحقاب
   ونداء لوحدة الصف يسمو
                     للنهايات دون أي حساب

أما تونس، وله فيها ذكريات ترجع في الأصل إلى أيام الدراسة، فأبدع في ربوعها الخضراء، روائع تمجد بطولاتها وأعيادها الوطنية ومواقفها القومية ونضال رجالها ورئيسها الحبيب، فكان ديوانه «تحت ظلال الزيتون».
وأما المغرب فقد لجأ إليه الشاعر في قمة إحساسه بالمقاومة ومعاناته لعنفها، فأتيح له في رحابه ان يسترد أنفاسه اللاهثة ليستمر في موقفه الثوري ينميه على أرضه الموحية دائما بالكفاح والجهاد، وأن يستقي منه ـ وهو يبني استقلاله ـ نبضا جديدا لثورة بلاده، ويستشف آفاق مستقبلها... فقد وجد في دأب المغرب على البناء ما يشبع عنده روح الثورة والنضال، كما وجد في موقفه من حرب تحرير بلاده الافع والحافز والسند الحق، بل وجد هذا الموقف منعكسا على الأدب المغربي ـ شعره ونثره ـ بقوة وتدفق وتلقائية وفي روح تضامني وخط وحدوي لا حدود لأبعاده.. كذلك نظر الشاعر إلى المغرب من خلال ما يتمتع به من عراقة حضارية وأصالة ثقافية، وما له من إمكانيات طبيعية ومقدرات بشرية، وما له من قيم رفيعة وشيم نبيلة، ومن خلال الرسالة التاريخية التي تحملها على مر الحقب والأزمان، فاعتبره مناط أمل الوحدة التي طالما حلم بها، فزاد به تعلقه واحبه ولم يلبث ان أبدع في إطار ذلك كله، فكان هذا الديوان «من وحي الأطلس».
ومفدي في ديوانه المغربي ـ  والحوافز المشار إليها ـ ينطلق من تجربة حقيقية صادقة غير مفتعلة ولا مصطنعة، ومن تم لا تعجب إذا وجدنا معظم القصائد والأناشيد التي جمعها فيه تدور في النطاق الوطني ومناسباته المختلفة، وموجهة في الغالب إلى الملك المغفور له محمج الخامس، وإلى جلالة الحسن الثاني نصره الله بصفة خاصة.
ومثل هذا الشعر داخل لا شك في إطار فن المدح، وقد أدرك الشاعر خلفيات هذه الظاهرة وأبعادها، وأحس بنظرات شازرة توجه إليه فبادر إلى الرد للتبرير والدفاع:
   وقالوا مدت المالكين أجبتهم
                        هل المدح في غير الأماجيد من شأني
   إذا ما استقام المالكون مدحتهم
                        وصغت مديحي من قواعد إيماني
   ولولا كفاح ما مدحت محمدا
                        و جئت بالآيات في الحسن الثاني
                        ***
   ولم أمدحك عن ملق وزلفى
                        فمدح الاكرمين لدى نبل
   وقالوا كم مدحت رجال حكم
                        وقول العاذلين لدى يحلو
   نعم صدقوا ولم تكن السجايا
                        بغير رجالها فيما تجل
   ومن تجر البطولة في دماه
                        إذا ما مجد الأبطال يعل
   ومن ألف الكفاح يزد كفاحا
                        بمدح رفاقه أيان حلوا
                        ***
   وعودني نضالي في بلادي
                        على مدح البطولة في الرجال14
                        ***
   مدح البطولة رفعة وكرامة
                         لولا البطولة ما انتزعت خلودا

وإذا كنت في غير حاجة إلى أن أؤكد أن فن المدح انزلق عبر مراحل تاريخ الأدب العربي غلى مهاوي التزلف والكذب، فاني في حاجة إلى أن ألفت النظر إلى ان بعض الشعر الذي يدخل بمعيار المقاييس التقليدية في نطاق هذا الفن هو ف صميم التي تناضل الأمة من أجلها، في توجيه وتكليف للمدوح وتحميله المسؤولية، ثقة فيه وفي قدرته على تحقيق تلك الرغبات، باعتباره شخصية فذة تلتف حولها الجماهير وتعلق عليها الآمال.
وإذا كنت أضع في هذا الإطار جل الشعر الذي قاله زكرياء، فلأني لا أنسى جانبين اثنين لاشك أنهما يزيدان في تأكيد ما أقول:
اولهما: أن توفر عنصر الصدق غير مشكوك فيه بالنسبة لهذا الشاعر الذي نشأ في أحضان الحركة الوطنية وأرهص للثورة وبشر بها وعايش التجربة النضالية في معاناة حقيقية، سواء خارج الجزائر او داخلها وفي غياهب السجون.
الثاني: أن روح معظم هذه القصائد يكشف ان الشاعر لم يبدعها بدافع التملق والتكسب أو بحافز الرياء والبهتان، ولكن تمجيدا للمنجزات والأعمال، وتاكيدا على القيم والمبادئ، وتحاوبا مع الجماهير المتوثبة، وانفعالا بالمواقف القومية، وتطلعا لآفاق المستقبل من خلال زاوية ثورية قوية ورؤيا وحدوية واضحة.
من هنا كان ينطلق في قصائده من المزج بين الملك والشعب، أو هو ينظر إلى هذا من خلال ذاك، جاعلا حافزه إلى القول ما بينهما من تلاحم وانصهار:
     فإن أمدحك أمدح فيك شعبا
                           رأيتك ذبت فيه وفيك ذابا
*
   انا صدقت يوم صدقت بالشعـ
                           ـب وقدست وحيه في كتابك
   أنا أيقنت يوم أيقنت أن الحـ
                           ـكم للشعب وحده فسما بك
وإذا كان القارئ يستطيع بنظرة سريعة في الديوان أن ينتهي إلى ان الشاعر لم يترك مناسبة دون أن يعرض للمشاريع والمنجزات والقضايا المختلفة في تتبع وتجاوب وإعجاب، مما يجعلني في غنى عن التمثيل لذلك، فإني لا املك إلا أن اسجل حضوره المستمر في الساحة الوطنية من خلال مشكل الصحراء وما أفضي إليه بعد ظهور الحق من حل إبداعي أصيل ومعحز متمثل في المسيرة الخضراء:
   صحراؤنا دنس الغربان حرمتها
                           وخانها من إلى جلادها ركنوا
   قالوا براح وفي دعواهم كذبوا
                           لابدع قالمين من أخلاقهم سنن
   سلوا الوثائق فالتاريخ يحفظها
                           وسائلوا الكون عنها يشهد الزمن
   واستفت (لاهاي) واستنطق نزاهتها
                          تنبئك من نبتوا فيها ومن سكنوا
   دم المغاربة الأبطال ضمخها
                          وما استكانوا لظلام وما وهنوا
   قالوا اقتراع فلنا بل نقارعكم
                          فتهزمون ويبقى اللحد والكفن18
                             *
   فقاد مسيرة خضراء تعلو
                           بها الرايات والذكر المجيد
   بها الأكباد تنصب انصبابا
                           فيدهش من شجاعتها الوجود
   فلا تعجب لمعجزة بشعب
                           تسير المعجزات كما يريد19
وكان قبل ذلك وفي أكثر من مناسبة قد طرح وحدة المغرب العربي:
   يا من رعى الوحدة الكبرى وآزرها
                           فاخضر من عودها دوح واغصان

   فليصنع المغرب الجبار وحدته
                            مادام يرعى ذمام الحار جيران20
                              ـ * ـ 
     والوحدة الكبرى رفعت لواءها
                            ورسمت منهاجا لها واصولا21

كما سجل موقف المغرب الرائع في حرب رمضان:
     يقود الثائر الحسن المفدى
                             جحافلها فيرتعش الوجود
     إلى سيناء تنصب السرايا
                             إلى الجولان تندفع الاسود22
وفي هذا الإطار القومي الوحدوي يهفو الشاعر في نبل ووفاء إلى أن يعرب عن العرفان بالجميل ويذكر بحقائق التاريخ الحي النابض، فلا يجد أروع من فرصة الترحيب بجلالة الملك في الجزائر:
     يا هابطا أرض الجزائر مرحبا
                             أرض الجزائر مهبط الشجعان
     فانزل عزيزا في بلادك مكرما 
                             لك في الجزائر حرمة وتهاني
     فاقبل هتافات الوفود تحية
                             وكرامة لشبابك الربان
     واسمع لروح محمد صلواتها
                             ومحمد من أخلص الاعواز
     قد كان أول من أجاب نداءها
                             وأبيت ألا أن تكون الثاني
     ان الجزائر في الوفاء نبيلة
                             لم تنس ناصرها على الطغيان

ومفدي زكرياء في ثنايا هذا وغيره مفتون بالمغرب محب لشعبه، لا يدع أية مناسبة دون أن يعبر عن هذا الحب والافتتان، ودون أن يتغنى بجمال طبيعته وروعة مدنه ومروءة أهله، لينتهي من ذلك إلى انتساب وإيمان واقتناع بتفرد هذا البلد في الوجود:
     وطني مغربي وأهلي بنوه
                          ان ما بي من حبه مثل ما بك
                              *
     بلاد عرفت الله في قسماتها
                             وآمنت أن الله ليس له ثاني
والحق أن مثل هذه النغمات الذاتية تضفي على قصائد الشاعر المفعمة بروح الوطنية والثورة خفقات حلوة جذابة، وهي ظاهرة تتسع عنده سواء في هذا الديوان أو غيره، فيميل ـ وان في حدود ـ إلى المزج بين الأحاسيس الذاتية والجماعية، أو بين الحب والنضال فيما هو شبيه بتمهيد أو مقدمة غزلية تقليدية، وهو في الواقع تركيب بين التجربتين الشعورية والثورية بحث باحكامه على تفجير شحنات عاطفية قادرة بفيضها الفعال أن تعمق الانفعال وتغنى مجال التعبير، في إلحاح على الأمل، وفي إطار إنساني بارز الملامح.
أكثر من هذا أن الشاعر حرص على أن يضم ديوانه باقة من شعره الوجداني الصرف، وأظنه كان قبل يجد حرجا في نشره، وهو إن لم يكن جزءا من مجموعته «الخافق المعذب» المحتوية على شعر شبابه وهواه، وقدد ذكر في آخر «اللهب المقدس» أنه يعدها للطبع، فهو مما أبدع في المغرب، شأنه في ذلك شأن الجزء الديني التوسلي الذي ختم به، ومن تم أراد أن يدمجها في هذا الديوان المستوحى من الأطلس الذي وجد الشاعر في ربوعه الطمأنينة وهدوء النفس وامكان الخلو إلى الذات والانطلاق في التعبير عنها.
وملاحظة المزج بين الشاعر الذاتية والجماعية عند زكرياء تفضي بي إلى تسجيل ظاهرة تعدد الأغراض في النص الواحد، ولكن دون إحداث خلل في وحدته العضوية. وهي وحدة ناتجة عن وحدة الإلأحساس وتكامل التجربة، حيث تبدو الأغراض داخل هذه الوحدة متناسقة ومتساوقة، ويبقى بناء قصيدة متراصا ومتماسكا في أجزاء متكاملة، بدءا من الحرف والكلمة إلى الشطر والبيت، وفي سياق وشعو موحدين،، وهذا يكشف عن قدرة الشاعر على التحكم في انفعالاته مهما كان ضغطها وإثارتها للقول.
وقد اختار مفدي لهيكل بناء قصيدته إطار العمود التقليدي، في محاولة أحيانا للتنويع والتلوين داخل هذا الإطار، وخاصة في الأناشيد أو ما هو شبيه بها مما يعتمد القوافي المتغيرة والمقاطع المفصولة بلازمة في الغالب.
وإذا كان الشكل تقليديا فالمضمون جديد ما في ذلك شك، وهو مضمون يكشف بثوريته القوية الواضحة عن مدى تجاوب الشاعر مع عصره وشعبه وقضاياه، بل ان هذا المضمون بطغيان روح المعاصرة عليه يكاد يشفع له عدم ابتعداه عن النمط العمودي، ولعله حتى من خلال المنظور الجديد لا ينبغي التحامل على عمودية مفدي، فقد جاءت أنسب إطار لقصائده الوطنية الجماهيرية، لما تقتضي من إنشاد وحماس وأسلوب مباشر يتسم بالخطابية والتقريرية، حيث يلح على التكرار والتأكيد والرد والتنبيه، وكذا على التعجب والنداء والاستفهام والانكسار، ثم على التحريض والأمر والنهي والنفي، وهي جميعا صيغ تسعف في التوعية والإيقاظ والإثارة والاستنفار والتفجير والحث على الجهاد والنضال.
ومع ذلك، ففي غير الشعر الوطني، وخاصة في وجدانيته ودينياته، يبدو زكرياء أكثر هدوءا وأميل إلى ترجيع الأصداء داخل ذاته فيما يشبه التأمل أو المناجاة. وحتى في هذا المجال كان الأسلوب الفخم المستمد من حماس الكفاح واوار الثورة يطغى احيانا، فيبدو غير تام الانسجام وما يقتضي أسلوب العاطفة من رقة وعذوبة، في حين تبدو آثار الهدوء والتأمل واضحة في بعض قصائده الوطنية ولاسيما تلك التي ظهرت فيها ملامح من عواطفه الذاتية متمازجة ومتمازجة مع الأحاسيس النضالية، بل ان الشاعر ليسيطر عليه هذا الجانب في حالات خاصة على حد ما تكشف قصيدته «الذبيح الصاعد» المشار إليها من قبل.
وشعر مفدي بهذا الأسلوب جاء متميزا بموسيقى نظم نبرها إيقاع أوزان مناسبة، وتطرب تقسيمات مقطعية داخلية، وتنغيم القافية التي ترد في الغالب متفقة مع ما يقتضي الإنشاد من جرس ينسجم وحالة نفسية الشاعر وجماهيره.
ولا عجب ـ في نطاق الانسجام بين القافية وحال الموضوع والتعبير وحرصا عليه ـ أن يختار الشاعر روى التاء لبعض قصائده الذاتية والدينية، فهو بهمسه مناسب لأغراض كالتسول أو التعبير الوجداني الهادئ، بما يوحي من تأمل وتعمق للأحاسيس، وفي هذا النطاق كذلك جاءت بعض قوافيه مستوحاة من موضوع القصيدة كما في بائيتي عيد الشباب26 ولامية رثاء علال27 وميميته في برء صاحب الجلالة من سقم كان ألم به28، وكذا في لازمات دالية لبعض أناشيده في أعياد ميلاد سمو الأمير ولي العهد المحبوب سيدي محمد وصنوه المولى الرشيد29 بل لقد تكرر الدال في إحدى هذه اللازمات فشكل قوافي داخلية زادت في تأكيد الانسجام بين الحرف والتعبير.
وقد تبين لي من خلال عملية إحصائية لقوافيه أن أزيد من ثلث الديوان ورد على النون وهو حرف ذولقي يوحي بالتطريب والتنغيم، ثم على الراء وهو حرف يثير نطقه رنينا ووقوعا صوتيا واضحا على السمع، وبعد ذلك على اللام وهو يقترب من الراء وان شابه النون في ذلاقته، ويصل حرص الشاعر على جمال قافيته وتعبيرها إلى حد لزوم ما لا يلزم، وله منه قصيدة جمع فيها بين العين الحلقية والكاف الانفجارية، وهي التي أولها:
   هل درى الفجر الذي قد اطلعك
                              ولد الشعب ام الجيل معك
وعناية مفدي بموسيقى شعره جعلته يعني بلغته، فجاءت سلسلة سهلة ناصعة، مع جزالة وفخامة، تثير بدوي كلماتها المشحونة بالنفس الحماسي ونبر تركيبها الصارخ إيقاعا رنانا يلحم بين التجربة والتعبير، ويصل هذا الارتباط بين اللغة والموضوع في بعض الأحيان إلى درجة إيحاء صوت الكلمات وتكرار حرف معين فيها بالمعنى، على حد ما يكشف عنه تتابع حرف السين ومعه الضاد في هذين البيتين من صفير معبر عن تصويت السلاح وتفشي الموت.
   وسارت سرايانا لجولان تلتقي
                           بجولان عزرائيل في ليلة الاسرا
   وتسبق اسرافيل ينفخ صوره
                           فتصعق في سينا لرجفته الصحرا
ومثل هذا التكرار ينصب على كلمات بعينها، كما في لفظ الجولان في المثال السابق، وهو كثير عند الشاعر، وقد يتخذ في بعض الحالات شكل تلوينات بديعية كالجناس:
   أليس من الخوارق أن نراه
                           يلاقي النبل لا يلقاه نبل
   ومن وهب العناية لا يبالي
                           ايخشى النبل من يغشاه نبل
                           - * -
   بنادقه لا بيادقه
                              تجيد مع الضالعين القمارا
   وفي الرباط ارتبطنا طوع مشورها
                              فان اسواره للمجد اركان
     أرسي المحاسن في أعماقها حسن
                              وصان حرمتها في البرج حسان
وكالجناس في التحسين البديعي تشكيل الطباق والمقابلة، وللشاعر فيه نموذج زيدوني رائع:
   ما للجراحات نخفيها فتبدينا
                        وللحشاشات ناسوها فتدمينا
   وللفواجع ننساها فتفجؤنا
                        وللسهام نصافيها فتنغصنا
   وللزمان نداريه فيردينا
                        وللسماوات ندعوها فتكسفنا
   وللحظوظ ندانيها فتقصينا
ولعله واضح أن هذه التلوينات المحدودة جاءت عفوية تلقائية لا يقصد بها الشاعر غلا التلاعب بالألفاظ وتكلف التزويق بالمحسنات، وهي بذلك تؤكد أن الصياغة عنده لا تطغى على العواطف، في وقت تساعد على التعبير عن التجربة وعلى إثارة الإحساس بالغيرة والنضال والشعور بالوجود والكرامة وعلى التأثير بذلك في الجماهير وحثها على التجاوب، كما ان صخب الإيقاع في هذه الصياغة الناضجة تداخل مع ضخامة الموضوع ليؤدي في النهاية وظيفته التعبيرية، انطلاقا من معايشة واقع نابض بالحركة والحياة، ومعاناة صادقة تتسم بالالتحام الحي مع مطامح الأمة وظروف نهوضها المتوثب، بما يحفز على تفجير طاقات الخلق في تشكيل معبر جميل، وبهذا الدافع ذهب الشاعر إلى أبعد مدى فلم يتردد عند مقتضى الحال في أن يتوسل بالتعبير العامي الذي صاغ به نشيد جيش التحرير الجزائري، بل وضع به ديوانا كاملا هو «أهازيج الزحف المقدس»
وفي هذه العلاقة المنسجمة بين الشكل والمضمون تكمن روعة شعر مفدي ـ وأي شعر ـ أو إحدى نواحي روعته وهي عندي بتكاملها الجدلي المقياس الحقيقي لصدق التعبير والجودة الفنية.
وإذا ما لوحظ على الشاعر من هذه الزاوية عدم التعمق في مضامينه، حيث جاءت بسيطة تتفق وسهولة اللغة التي سكبتها، فعذره أن شعره بحكم مخاطبته للجماهير، وحتى يكون قريبا إلى النفوس والافهام والعواطف الشعبية، اتسم في أغراضه كما اتسم في أساليبه بطبيعة تجعله هادفا إلى التوعية والإثارة وليس إلى التفكر والتأمل، وعذره كذلك أن اتساع النطاق في تجربته لم يتح لمعاناته إمكان التركيز والتجميع، وعذره بعد هذا أن المتلقين لشعره يشاركون تجربته ومعاناته، ومن تم فإنهم لا يحسون بأنه يأتيهم بجديد، وحتى ان أتى به فإنهم لا يدركونه أو لا يكادون.
ويبقى مفدي مع ذلك صاحب شاعرية مكتملة ناضجة، ورؤيا واضحة محددة، وقدرة عفوية على التعبير في صياغة سليمة جذابة وتجاوب تلقائي صادق، كما يبقى شعره شاهدا على نهضة العصر ووثبة الشعب، وصورة حية لمرحلة صاخبة من حياته، وصفحة فنية من التاريخ تغني مضامين الوطنية والقومية وتوسع آفاقها وأبعادها، وتعبيرا مشرقا في مضمار الكفاح عما تحسه الجماهير وتتطلع إليه في أقطار المغرب الكبير وجميع بلاد العروبة، ويبقى تبعا لذلك شعرا هادفا أدى دوره ومازال، وأظن أنه سيظل حيا في النفوس والألسنة، طالما أن بواعثه موجودة تحرك حياتنا نحو الأحسن والأفضل، وهي بواعث خالدة في شعبنا التواق أبدا إلى الحرية والكرامة والنضال من أجل المحافظة على مقومات الحياة الشريفة النبيلة.
وأعتقد بذلك أنم مفدي زكريا يتعدى الإطار المحدود لشاعر الجزائر وثورتها إلى إطار شاعر المغرب العربي الكبير، وأكاد أعتقد أنه حقيق بمكان طليعي في مسيرة الشعر العربي المعاصر عامة، وهو إذا كان جديرا بهذا المكان فليس فقط باعتباره شاعر الأقطار المغربية، بل باعتبار شعره يمتاز بالسلاسة والنصاعة والإيقاع المنغم الجميل، ثم باعتبار هذا الشعر يمثل بحق، وتحفزا من عاطفة فياضة، وانطلاقا من تجربة ومعاناة صادقتين روح العروبة المفعم بالتآزر والتضامن ومبادئ الحب والإخاء وشرف الكلمة والرأي، والمفهم كذلك بوشائج الوحدة ودعائم الكفاح الوطني والقومي والرؤيا الواضحة لآفاق المصير المشترك، وهي لعمري مقومات نفتقدها ـ أو بعضها ـ في كثير من الشعر العربي المعاصر، على غنى أشكاله وغزارة مضامينه.
ولاشك أن ديوان شاعر بهذه المنزلة يحتاج إلى دراسة نقدية واسعة عميقة ليس مجالها في هذا التقديم، ولكن حسبي أنني ألقيت قليلا من الضوء عليه، ولعلي بذلك أن أكون أعربت عن بعض مظاهر العرفان لشاعر الجزائر الذي حافظ على العهد حين تنكر غيره، فظل وفيا للمبادئ النضالية الثورية والقيم الوطنية القومية والروابط الأخوية الإنسانية، وما أخال غخراج ديوانه في هذه الحلة القشيبة بأمر مولوي كريم إلا مظهر اعتراف لهذا الشاعر الوفي. 


-----------------------------

محمد العيد ال خليفة


هو محمد العيد بن محمد علي بن خليفة من محاميد سوف المعروفين بالمناصير من أولاد سوف من شرق الصحراء، ولد في مدينة عين البيضاء ( مدينة بأقصى الشرق الجزائري) بتاريخ 28 أوت 1904 م الموافق 27 جمادى الأول 1323 هـ .

حفظ القرآن الكريم كاملا و لم يتعدى الثانية عشر من العمر كما تلقى الحديث وأصول الدين و اللغة عن الشيخين محمد الكامل بن عزوز و أحمد بن ناجي انتقل مع أسرته إلى مدينة بسكرة – بوابة الصحراء الجزائرية - سنة 1918 و واصل دراسته بها عن المشايخ علي بن إبراهيم العقبي الشريف و المختار بن عمر اليعلاوي و الجنيدي أحمد مكي.

ولد في أحضان أسرة متدينة ، وتحت رعاية أبٍ صوفيٍّ صالح ، فتزعزع في ذلك الجوّ الأسريّ المفعم بالتقى والعفة والورع وتشربت نفسه هذا الحبّ العميق المتوارث للعقيدة الإسلامية والأخلاق الفاضلة والإيمان الشديد بعزّ الإسلام والوطن (4).

منابع ثقافته:

تعد الأسرة التي عاش فيها "محمد العيد" أول منبع لثقافته ، فقد أخذ منها الكثير كحب الوطن وحبّ العقيدة والقيام بتعاليمها ، وكذا محبة الأخلاق السامية والتحلي بها .

ثمّ استهل تعلمه وحفظه للقرآن الكريم ، في الكتاتيب ثم التحق بالمدرسة التابعة لمسقط رأسه بعين البيضاء حيث بدأ يتلقى المبادئ الأولى في العلوم الدينية واللغوية ، على يد الأستاذين : الشيخ أحمد بن ناجي والشيخ محمد الكامل بن الشيخ المكي.
أتمّ حفظ القرآن الكريم وهو صاحب الأربعة عشر سنة، على يد أحد أئمة مساجد بسكرة ، ثم توجه لدراسة التوحيد(5) والفقه والنحو والمنطق وغيرها من العلوم الدينية واللغوية ، على يد الشيخ"عليّ بن ابراهيم العقبي" ، وفي عام1921م، سافر الى تونس ، قبلة البعثات الطلابية آن ذاك وانتسب الى جامع الزيتونة ، ولماّ وجد أن الكتب المقررة في درجته ، كان قد قرأ معظمها بالجزائر ، قررّ التخلص من هذه الطريقة النّظامية ، التي تلزمه بالحضور في حلقة معينة ، فراح يحضر حلقات مختلفة المستويات مماّ سمح له باختيار ما يلائمه من دروسٍ وأساتذة ، والى جانب هذا كان يداوم بصفةٍ حرة على بعض الدروس في بعض المواد العصرية كالحساب والجغرافية وغيرها وذلك بالمدرسة الخلدونية ، وبقي على هذا الحال مدة سنتين ، ولأسبابٍ مرضية عاد الى الجزائر عام1923م ، دون أن يحصل على أيةّ شهادة علمية ، وكان مايزال طالب علم، متعطشاً الى المزيد ، فاتصل بالعديد من الشيوخ ، وأخذ عنهم الكثير من العلوم منها؛ الفقه والحساب والفلك والتفسير وعلوم البلاغة ، ومن بين هؤلاء الشيوخ ؛ البشير الإبراهيمي ، والطيب العقبي.


إضافة الى كلّ هذا كانت البيئة الاجتماعية قد أثرت هي الأخرى في تكوين شخصيته العلمية.

وكذا مكتبته الخاصة التي كانت تحوي مصنفات دينية وعلمية ، كما شملت أمهات الكتب المشهورة في اللغة والأدب وبعض دواوين الشعراء القدامى والمحدثين

ونظراً لثقافته واختلافها فقد تقلد بفضلها عدةّ مناصب نذكر منها : درّس في عدةّ مدارس وتولىّ إدارتها مثل :جمعية الشبيبة الإسلامية في مدينة الجزائر سنوات"1928-1940" وكان مديراً لها عام1931م.

وكذا مدرسة التربية والتعليم في باتنة سنوات"1940-1947" ومدرسة العرفان بعين مليلة سنوات"1947-1954" ، تولى منصب إمام بمسجد من المساجد الحرةّ بعين مليلة .

-احتل منزلة عضو في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ تأسيسها عام 1931م، وكان نائب رئيس لجنة الآداب التابعة للجمعية.

شارك في النهضة الصحافية ببسكرة ، حيث نشر في معظم الصحف والجرائد شعره.

احتل منصب عضو في الهيئة المؤسسة والمحررّة لجريدة صدى الصحراء ، كان العضو الثاني الى جانب العقبي في إصدار وتحرير جريدة الإصلاح ، كما كان عضواً في تأسيس مطبعة الإصلاح؛.

كان عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق.
كما اعتبر كاتب مسرحيّ، مثلت مسرحياته في الحفلات الطلابية.

شخصيته ومكانته:

حياته الدينية التي شبّ عليها جعلته منذ صباه راغباً عن حياة الدنيا موليا وجهه عن زخرفها ، قانعاً بالقليل منها، مماّ طبع بطوابع الجدّ ، فنشأ بذلك عزوفاً عن الحياة المليئة بالبذخ والملذات فهو لم يعرف ماعرفه بعض الشعراء في القديم وفي الحديث ، من مظاهر اللهو والترف في مراحل حياته ، كما لم يعرف من ناحية أخرى، ذلك الترددّ ما بين اللهو والتدين أو ذلك الازدواج في الشخصية ، الذي وقع فيه بعض الشعراء المحدثين أمثال "أحمد شوقي"بل شبّ على الدين والتقوى وشاب عليها، فتجلى ذلك في طهارة قلبه وعزةّ نفسه والميل الى البساطة والتواضع والنّفور من الادعاء والتعقيد والتكبر ، وهاهو ذا يقول في التواضع:

إنّ التواضع من سمات البـرّ من ** يَعْتَدْه فهو البَرُّ في الأقـوام

وقد شبه الأستاذ "محمد بن سمينة" شخصية الشاعر بشخصية "حسان ابن ثابت الأنصاري" حيث قال: وتكاد شخصيته في هذه الجوانب تقترب من شخصية الشاعر حسان ابن ثابت الأنصاري ، الذي كان يغزو مع المجاهدين في صدر الاسلام .

إلاّ أن عدته وعتاده في ذلك الغزو إنماّ هو لسانه وشعره وكذلك شاعرنا كان شاعراً في الحرب وشاعراً في السلم ولكنه لايملك من العدةّ في كلتا الحالتين إلاّ الشعر والأدب: 

أسالم الناس في عيشتي فإن عمدوا ** الى خصامي فسيفي :الشعر والأدب
وإن دعاني قومي أن أنا صرهم ** فعدتي في انتصاري : الشعر والأدب

ويقول عنه الدكتور عمر بن قينة:"هو شخصية متميزة عكسها شعره الذي رافق مرحلة النهوض السياسي والفكري والاصلاحي ، فعبرّ عن ذلك بصدق وإخلاص ... فكان بذلك نغماً جوهرياً في صوت الجزائر ، بوجهها العربي الاسلامي، وملامحها الانسانية ، منساقاً في كلّ الأحوال لقيم الخير والحرية والعدل والمحبة والرحمة والتكافل والبذل ...مماّ يعكس حقاً شخصية شاعر فنان يهزه الحدث الكبير ، كما تطربه اللفتة الصغيرة والصورة الجميلة ، مثل الفكرة العابرة".

محمد العيد رجل التصوف والاصلاح:

كان "محمد العيد" واقعاً تحت مؤثرات البيئة الاجتماعية ، التي كانت في معظمها بيئة دينية محافظة ، فجمع في تكوينه الفكري ما بين مبادئ الاصلاح التي كانت بذورها الأولى قد غرست في نفسه قبل سفره الى تونس ، وبين النزعة الصوفية التي انتقلت اليه وراثة واكتساباً ، من أسرته بوجهٍ عام ومن أبيه بوجه خاص والذي كان صوفياً على الطريقة التّجانية.

ويضاف الى تأثير الأسرة والأدب ، تأثير آخر وهو تأثير الأساتذة والمشايخ فمعظمهم كانوا رجال إصلاح وتصوف هذا ما ساعد على تعميق الصلّة(2) بين الشاعر والاصلاح من جهة ، وبينه وبين التصوف من جهة أخرى، فمشايخه من آل المكي بن عزوز بيعين البيضاء ، وكانوا شيوخاً للطريقة الرحمانية ودعاة اصلاحٍ في آن واحد، لقد تمسك الشاعر بهذه الطريقة الصحيحة، كما كان يرى أنه لايخرج فيها الى ما يشين الى العقيدة ، أو يخدش بها الدّين ، بل يرى أن هذه الطريقة هي منهج للعبادة والذكر ، كما أنها لاتتناقض مع فكرة الاصلاح ، وذلك لأنهما يلتقيان في بعض الغايات ، بصفتها عامل من عوامل نشر الاسلام وذلك لما تعتمد عليه من الأصول الدينية من قرآن وسّنة.

لقد كان الشاعر مصلحاً صوفيا داعيا الى الاصلاح ناشراً للمفهوم الصحيح للاسلام ومقاوماً للانحراف ، والجهود والأهواء ولا عجب في ذلك فقد عرفت هذه الثنائية بين الصوفية والاصلاح ، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة في القديم والحديث ، وممّن اشتهر بذلك من القدماء : حجة الاسلام أبو حامد الغزالي (450-505هـ) الذي جمع ما بين التصوف والفقه وبين العلم والفلسفة، ونشير الى أنّ الشاعر معجباً بمنهج أبو حامد الغزالي ، مماّ يبرز تأثره به فهو يقر بهذه الحقيقة في قوله:"إنيّ أحبّ مشرب الغزالي لأنه لا يخرج عن الشريعة ، ولايهمل العقل".

كان محمد العيد آل خليفة يشرف على تسيير مؤسسة مدرسة الشبيبة الاسلامية التي تعتبر في نظر الاستعمار من أخطر المؤسسات التعليمية في قلب البلاد وهو من جهة أخرى شاعر أسهم بشعره ، في توعية المواطنين 

وتصويب تطلعات شعبه ، والدفاع عن قضاياه ، وهو من جهة ثالثة ركن من أركان الاصلاح والوطنية يحمل لواء الدعوة الى المقاومة .

ولهذه الأسباب مجتمعة ، كان "محمد العيد" محل شبهة تكاد تكون دائمة ، فكانت العيون تترصده في حلّه وترحاله ، وتحسب عليه حركاته وسكناته فهو محارب أينما وجد .

ولعله أشار الى بعض ذلك في هذه الأبيات حيث يقول :
إنّ للناس أنفسًــا ** ضاريات على الضرر
وعيوناً رقيبـــةً ** شرّة تقذف الشـرر
فأنج من كيدها وكن** من أذاها على حذر 

وقد قدم للمحاكمة عدة مرات بتهمة أنه يقوم بتعليم اللغة العربية والدين الاسلامي ، وتوعية الشعب . وكان يستدعى للاستنطاق من حين لآخر ، وقد هددّ بالسجن أكثر من مرة ودخله عام1955م من شهر جوان(1)، وبقي شاعرنا يعيش حياة غير مستقرة تملاها الضغوطات والمطاردات لينتهي به الحال الى فرض الاقامة الجبرية عليه في منزله الذي بقي محاصراً طوال أيام الثورة المباركة.

وقد صور لنا حالته في هذا الشأن بقوله:
أخال إقامتي جبراً كقبــر ** حملت اليه كالجثث البوالي
أرى الأحياء من حولي قريبا** وهو بالعيش عنيّ في اشتغال(2)

وبالرغم من تلك الحياة التي عاشها شاعرنا تحت الظروف القاسية والحرب النفسية لم تنل من عزيمته ولم توقف نظاله بل واصل رسالته لما يغمر قلبه من ثقة بالله تعالى ، وحبّ الوطن وتفانٍ في خدمته وبقي يساهم في الاصلاح الديني وتوعية الشعب واستنهاض هممه؛ لهذا نقول إنّ لنزعته الزهدية والصوفية جذور قديمة متأصلة في أعماقه فما برحت تمدها وتغذيها أسباب متعددة من ميراثه الصوفيّ ونشأته الدينية وبيئته المحافظة وتكوينه العربي الاسلامي ومعايشته لمأساة أمته كما أنّ محاصرته داخل منزله وفرت له الجوّ الملائم للنزوع الصوفيّ ومكنّته من النمو والسمّو في نفسه ، واستمر على هذا الحال متفرغاً للعبادة ، لايتصل بالحياة الدنيا وأهلها إلاّ بحذر وبمقدار .

وفي سنّ الشيخوخة(بعد الاستقلال) خلص للعبادة وخاصة بعد أدائه لفريضة الحج سنة1966م فقد أصبح كلّ وقته له، تفرغ فيه الى خلوة تكاد تكون خالصة ، يشبع فيها تلك الرغبة الكامنة من هذا الفيض الرباني، ويعكف فيها على نفسه، يجهدها في طاعة الله، والتقرب اليه بصالح الأعمال وخالص العبادة وصادق الذكر ، وانكب عليها يزكيها ويزهدها في الحياة الدنيا ويرغبها في الحياة الأخرى ونعيمها .

يقول في النزعة الصوفية هذه الأبيات:
لأرباب القلوب عهود صـدق ** وأقوال تصدقها الفعال
على القلب السليم بنوا وشادوا ** له ملكاً وبالملكوت جالوا
وبالظّن الجميل جنوا ثمــارا ** زكيات لها زكت الخلالُ
جمال الله أذهلهم فهامـــوا ** وأدهش بالهم منه الجلال(1)
فما سكنوا الى الدنيا قلوبــا ** وماركنوا لزخرفها ومالوا
فكن أبداً مع الأبرار واجنـح ** لهدى إمامهم فهو المثـالُ
رسول سن سنته طريقـــاً ** معبدة يباح بها الوِصـال

نلاحظ من خلال هذه الأبيات ، صدق التجربة وحرارة الانفعال ، اللذين كان الشاعر يعيشهما، وهو يحيا هذه الأجواء الرّبانية مما يعكس بعض ملامح صوفيته ، التي استقى أصولها من صميم الاسلام .
وفاته

بقي الشاعر يعيش أواخر أيامه بصوفيته وزهده وعكوفه عن الحياة الدنيا، إلى أن مرض ونقل إثر ذلك الى مستشفى مدينة باتنة وبقي على حاله يوم الأربعاء ، وتوفي السابع من رمضان المعظم سنة1399هـ الموافق لـ31جويلية1979م ونقل جثمانه الى مدينة بسكرة حيث دفن بمقبرة "العزيلات" وذلك يوم09من شهر رمضان لليوم الثاني من شهر أوت.

مراحل شعره: 
لم يترك الشاعر وراءه ما يتهالك عليه المتهالكون من حطام الدنيا ولكنه ترك لنا شعره ، وأهم ما وصلنا منه ديوانه الذي يقع في أكثر من ست مائة صفحة(1)، ويحتوي على 6797بيتاً من الشعر(2)، طبع عام1967م على نفقة وزارة التربية الوطنية في الجزائر ، ثم قامت الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بطبعة مرة ثانية سنة1979م، كما ترك ملحمة شعرية يصور فيها الجزائر حتى عام1964م بعنوان: وحي الثورة والاستقلال، وهي في446صفحة ومسرحية شعرية بعنوان"بلال بن رباح"(3).

إنّ الموهبة الشعرية لدى محمد العيد مكنته من التعبير عن أحاسيسه وتجاربه فجادت قريحته بقول الشعر ونظم القصائد وتعتبر أول خطوة خطاها وهو مايزال طالباً في بسكرة ، أعانه على ذلك أنه نشأ في بيئة أدبية ودرس على يد شيوخ معظمهم شعراء مثل معلمه الأول بعين البيضاء "محمد الكامل بن عزوز" ، ولماّ انتقل الى بسكرة توفرت لديه حوافز الابداع فبدأ ينظم قبل أن يتعرف تعرفّاً جيداً على أدواته بدافع من موهبته وبتأثير من محفوظاته وهو لم يتعدى السابعة عشر من عمره ، فكان يعرض ما ينظم على أقرانه وعلى شيخه علي بن إبراهيم العقبي فكان يحضى بالاعجاب والتشجيع حيناً وبالنقد والتوجيه حيناً آخر .
إن ّ لهذه المؤثرات المختلفة مفعولها في تغذية اتجاه الشاعر الى قول الشعر فاستمر في هذا الاتجاه وتعتبر قصيـدة "داعي النهوض" من أقدم القصائد الكاملة التي وصلتنا على حدّ تعبير الأستاذ محمد ابن سمينة والتي قالها حوالي سنة1920م ثم نشرها في 24جويلية1925م.

أما عندما كان طالبا في تونس لم يتسنى له أن قال شعراً وذلك لأنه وقع أمام الخيار الحاسم فرض عليه أن يختار اتجاه من الاتجاهين وهما إماّ يسير في طريق الأدب وإماّ أن يسلك طريق العلم والتحصيل فاختار الاتجاه الثاني يقول في هذا الصدد : (كنت طوال فترة وجودي بتونس منكباً على التحصيل العلمي مشتغلاً به دون سواه ، لإحساسي أنّ ما حصلت عليه من الأدب قد يكفيني الى حين ولذلك لم استكثر من الشعر ولم أحرص على عقد الصلّة بيني وبين من كنت أسمع بهم من شعراء تونس يومئذ...على الرغم من أنيّ كنت أترددّ على البعض المحافل الأدبيةأحياناً).

وعند عودته من تونس استقر ببسكرة وكانت تشهد يومئذ بوادر نهضته علمية وأدبية نشطة يساهم فيها ويوجهها كوكبة من الكتاب والشعراء فاندمج الشاعر في هذه الحركة ، ويعلق على ذلك فيقول : (في بسكرة فتحت عيني على النهضة الأدبية والعلمية وتعرفت على بعض الأدباء وكان لي معهم مساجلات أدبية ورسائل شعرية).

ويمكن القول أنّ الانطلاقة الحقيقية للشاعر في الميدان الفني ترجع الى الفترة التي عقبت عودته من تونس ، والذي يدلّ على هذا هو غزارة إنتاجه وتمرسه فيه.

أما ما سبق هذه المرحلة فتعد بدايات وارهاصات لما بعدها ومن أقدم القصائد في هذه المرحلة "قصيدة صدى الصحراء" حيث تتضمن دعوة حارة الى العمل واليقظة والاصلاح ، حيث يقول:
صفا العيش لي وامتد ريف ظلالـي ** فمـا تكاليف الزمـان ومالـي
صفا العيش وازدان روض مواهـبي ** وأينع فضلي واستبـان كمالـي
وكنت صدى الصحراء أدعى لأنني ** بسطت على الصحراء نور هلالي 
وواليت بالارشاد رفـع عقيرتـي ** عسى أن يهب النائمون حيالي
وهبوّا الى الاصـلاح فالله كافـلٌ ** لمن هبّ للاصلاح حسن مئـال

ويبدو من خلال هذه القصيدة أن الشاعر قد دخل الحياة العامة ، بعد عودته من تونس مباشرة ، لكنه سرعان مااصطدم بالواقع السّيء الذي يتخبط فيه شعبه ، ولكونه لم يزل بعد طريّ العود، غضّ التجربة، ولم يكن يملك الوسائل التي تمكنه من المقاومة الصلبة، فقد تراجع الى الخلف وأصيب بتوتر نفسي دفعه الى العكوف على نفسه يتأملها ويبحث عن سرّ الحقيقة في أغوارها ، وساعد على نمو بذور تلك النزعة الانطوائية التي شبّ عليها فتبّرم من الدّهر وهو في ريعان الشباب ، يعبر عن ذلك بقوله:

سئمت على شرخ الشباب حياتي ** فحرتُ ولم أملك عليّ ثباتـي
أرى حظّ أرذال النفوس مواتيـاً ** وحظّ كريم النّفس غير مواتـي
فأوجس في نفسي من الدّهر خيفة ** لعلمي بأن الدهر ذو غمـرات
أرى الكون قرآنا من الله منـزلاً ** على الروح والأحداث آي عظات
وأقرأ من آي الشقـاوة أسطـراً ** على صفحات الكون مرتسمات

ولايمكن أن نرجع هذا السلوك الى الفشل ، بل يرجع الى إحساسه العميق بمأساة وطنه .

وتجدر الاشارة الى أنّ نقول أنه لم يعثر في ديوانه على أكثر من أربع قصائد ومقطوعة واحدة، وذلك كلّ مايمثل حصيلة ما أنتجه أثناء الثورة المجيدة إلاّ أن هناك من يذكر أن للشاعر قصيدتين فقط، وهذا لايعني أنه لم يكن يكتب شعراً والدليل على هذا قوله: (كنت أكتب وأكتم ما أكتب).

ويمكن أن يكون ماكتبه يومئذ قد أتلف أو حرق أثناء بعض الحملات الارهابية التفتيشية التي كان المحتلون يشنونها على بيوت المواطنين ومحلاتهم، يقول الشاعر في هذا الصدد: (كنت قد نظمت أثناء الثورة بعض الشعر، وهو قليل لكنه قد ضاع منّي بسبب ظروف التحري التي كناّ نخضع لها في أغلب الأوقات ).

أما بعد الاستقلال وبعدما أصبح حلم الشاعر حقيقة (المتمثل في الاستقلال) خرج من أسره تغمره الفرحة وتهزه النشوة وتوفرت له حوافز القول ودوافع الإنشاء، مضى يغني للحرية بعد صمتٍ طويل ، غناءا أطرب الأسماع وهزّ القلوب، فظنّ أولئك الذين حركتهم تلك الألحان الصادقة أنّ الشاعر قد استعاد سيطرته على الموقف وملك زمام أمره وأنه سيمضي على هذا الطريق بهذه القوة والحرارة نفسها التي عهدت في شعره .
ولكن الحقيقة كانت غير ما كان يفكر فيه هؤلاء ، ذلك أنه ما كان من الشاعر(1) .

في هذه السنوات الأولى من الاستقلال إلاّ فيضا وجدانيا لما يغمر قلبه من مشاعر الفرحة وهزّ الوجدان فكانت تلك الروائع استجابة لهذه الأحاسيس الحارة فقط لا أكثر ، فعاد الى العزلة والصمت وألوان العبادة والتصوف من جديـد(2) .

مواضيع وأغراض شعره:
إنّ مضامين شعره تتركز حول محاور أساسية ، يمكن القول أنهاّ أربعة لايكاد الشاعر يغادرها إلاّ ليعمقها ويمكن لها وهي: (الاسلام والعروبة ، الوطن والانسانية) .

إنّ الاسلام هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأمة وبه تحي وتستمر فالتاريخ يكشف لنا على أنّ الكثير من الأمم قد آلت الى الزوال بعدما حرّفت عقيدتها ، لهذا أخذ محمد العيد على عاتقه مهمة الدفاع عن العقيدة ومبادئ الاسلام داعيا الشباب للتمسك بالدين باعتباره الطريق الوحيد للنجاة والنجاح يقول:

نتمنى لك الثبات على الـرّ ** شـد وما أنت عندنا مسترابُ
نتمنى بالدين أن تتحلــىّ ** من تحلىّ بدينـه لايـعـابُ
إنماّ الدين لليوث عريــنّ ** لا تغرنك بالعواء الذئــابُ
إنماّ الدين في المبـادئ رأس ** المجـد منهـا وغيره أذنـابُ

من هذه الأبيات يظهر لنا ان الشاعر متشبع بالروح الدينية والتقى والورع يحب الخير للجميع وينصح الشباب للتمسك بالدين ، والحفاظ على العقيدة لأنها حبل إعتصامه وقوة وحدته وعزّته .

أماّ العروبة في نظر شاعرنا هي أنّ كلّ من تكلم العربية ودافع عنها فهو عربي يتمتع بكامل عروبته ، وهو بهذا يؤكد معنى العروبة الحقيقي دون تعصب لها كعرق ، وإنماّ ينظر اليها كمعيار للحضارة التي سهلت الوحدة بين أبناء لغة الضاد ، ولهذا فشاعرنا يهتم باللغة لأنها تمثل بالنسبة اليه أحد المقومات الهامة التي من شأنها الربط بين أبناء العروبة فقد نوه لها انطلاقاً من أصالتها وكونها وعاءا حوى ماضي الأمة التي تشترك في المصير

وعلى هذا الأساس نظم القصيدة المعزوفة العروبة أمناّ الكبرى حيث يقول فيها:

الملة السمحاء آصرة لنــا ** فوق الأوامر و العروبة مولد
هيهات تقدر أن تفرقنا يـد ** والله يجمع شملنا ومحمّــد
إنّ العروبة أمناّ الكبرى التي ** في الأمهات نظيرها لايوجد(1)

أماّ ما قاله عن الوطن فهو يعبر عن صدق تجربه وإحساسه المرهف وحبهّ العميق للجزائر ، فقد تألمّ لألمه وفرح لفرحه، أنشد فأطرب وعبّر فأجاد ، وحسّ فصدق ، شاركه في أفراحه وأتراحه بقلمه ولسانه فكان عنصراً فعالاً في استنهاض همم الشباب وبث روح الحماسة مواكباً لأحداث وطنه جسداً وروحاً .
وفي هذه الأبيات يخاطب المحتلّ الفرنسي بأن لاحقّ له في أرض شعبٍ بذل النفس والنفيس في استرجاعها فليس عدلاً أن يسلبه حقه ليستريح ويشقى هو، وأن يخلد المحتلّ ويبيد تحت ظلمه هذا الشعب ، ولكن هذه الأرض هي لأفذاذ سيبقون أحراراً رغم الطغاة الغزاة وإن أستهين بقوتهم:

ليس حقاً أن تحرمي الشعب حقاً ** لقي النار دونه و الجديدا
ليس حقا أن تستريح ويشقـى ** ليس حقاً أن تسكني و يميداَ
ليس حقا أن تستجدّي يبلى ** ليس حقاً أن تخلدي ويبيداَ
يا فرنسا ردى الحقوق إلينـا ** وأقلىّ الأذى و كفّى الوعيداَ
نحن رغم الطغاة في الأرض أحرا ** ر وإن خالنا الطغاة عبيدا

لماّ تحقق النصر للشعب المفدى واسترجع دولته الفتية بعد جهادٍ طويل كلفه غالياً ،عبّر الشاعر عن فرحته بهذا اليوم الذي بقي خالداً وسيبقى خالداً...

كان يوم استقلالنا عيد شعب ** طافح البشر ساحب الأذيال
قالزغاريد والهتافات تعلــى ** بين قرع الطبول والأزجال
والأناشيد في الميادين تتلـى ** من نساء وصبية ورجــال
قد رفعنا الهامات بالنصر تيها ** و شكرنا لربّنـا المتعــال

الى جانب هذه المضامين الأساسية ، نلمح وجود بعض الأغراض التقليدية المعروفة في الشعر القديم من وصف وحكمة ومراثي وإخوانيات ...الخ، ندرج بعضا منها:

1-الرثاء: رثا "محمد العيد" شاعر النيل حافظ ابرهيم في قصيدة بعنوان"رثاء شاعر النيل" .
قمْ عزّ مصر وعزّ الشرق أقطاراً ** فحلُ مصر خبا كالنجم وانهـاراَ
ياموتُ عدتَ بنفس خصبة نبتت ** فيها المبرّات مثل الرّوض أنهـاراَ
وغلت ليثاً بجنب النيل كان لـه ** زأرّ به أوسع "التاميز" إنـذارا
ياشاعراً حنّ بالفصحى ورنّ مدى ** كالطير زقزقة و العود أوتـارا
أقام مأتمه الدنيـا وأقعـدهــا ** ودام فيها عشياتٍ و أبـكـارا
وفي الجزائر من وجـد بمأتمــه ** هولٌ عليها طغى كالموج تيـارا
وابن الجزائر بابن الشرق مرتبـط ** وإن أحاطت به الأشواك أسواراَ
يارحمة الله هبّـي نفحـةً وهـمي ** غيثا على حافظ في القبر مدرازاَ
في ذمة الله لا أنسـاه ثانـيــة ** حسبي بحبّي له عهداً وتذكـارا(1)

2-الوصف: لقد نظم الشاعر قصيدة يصور فيها مشهداً من مشاهد البؤس الكثيرة في الجزائر ومن تلك القصيدة نورد الأبيات التالية:

بدا لعيني تاعــسٌ ناعــسٌ ** على الثرى في الصبح بالي الثيـاب
جاثٍ على الرجلين حاني الحشى ** والظهر هاوي الجسم ذاوي الشباب
فهاج من حزني ومن لوعتــي ** كما يهيج النار عـودُ الثقــاب(2)

3-الاخوانيات: وفي هذا الموضوع ندرج أبياتاً كان قداحياّ بهم محمد العيد الأستاذ أحمد سحنون حينما زاره في بيته يقول:

سيديّ إننيّ إليك مشــوقٌ ** وعوادي الزمان عنك تعوق
إننيّ مذ فقدت وجهك لم أضفر ** بوجهٍ من الأنام يــروقُ
سيديّ كيف حالُ قلبك بعدي ** في زمان قد عزّ فيه الصديقُ
هل كما كان للحياة طروبـاً ** هلْ له بعدُ بالقريض خفوقُ(3)

وقد أهدى الشاعر هذه القطعة الشعرية الى صديقيه الأستاذ الطيب العقبي والسيد عباس تركي ، بعد أن أطلق سراحهما من السجن ظلماً من الاستعمار الفرنسي ، يقول فيها:

خذا لكما عنيّ من الشعر باقة ** كذكركما كما الزّاكي تضوع وتعبق
مضت لكما في الدهر أيام محنة ** وساعات عُسر بالأماثل تلحــق
بها يمحّص الله المحقّين في الورى ** ويسحق دعوى المبطلين ويمحـق(1)

خصائص شعره:
على العموم "محمد العيد" يعتبر من أحد شعراء المدرسة الاحيائية التي تقوم على احياء التراث والاستفادة منه، إلاّ أنه جددّ في المضامين وكان شديد الصلة بالأسلوب العربي القديم ، حاول أن يخلّص أسلوبه من الضعف والتصنع والجمود(2).

ومن أهم خصائص شعره:
1-يكاد شعره يخلو من تصوير لعواطف الشاعر وأحاسيسه الذاتية الخاصة ، فغلبت على شعره الذات القومية الجماعية ، يقول في هذا الصدد: (إنّ ذلك الموقف الذي اتخذته، وذلك المنهج الذي إلتزمت به في شعري إنماّ هو تعبير عن وجدان الأمة ، وإنيّ وإن كنت قد قلت في بعض الأشخاص فلأني كنت أعتبر ذلك جزءاً أساسياً من عملي الوطني والقومي).

ومثال ذلك قوله:
نحن الدعاة الى الحسنى فما أحدّ ** مناّ بمجترح للشـرّ مجتــرم
ألا فقل للذي بالحرب فاجأنـا ** لاتلق بالحرب من يلقاك بالسلم
وقل لمن نالنا بالظلم منتقـمـاً ** حذار من نائلٍ بالعدل منتقـم

2-اللغة التي استعملها في شعره هي لغة الرغبة الجادة في التبليغ ، لا لغة الزخارف والأصباغ التزييفية والتلاعب بالألفاظ يقول :

أنت من عنصر الخلود لباب ** كن الى المجد طامحاً ياشبابُ
لك دين مدى الدهور عزيزّ ** يبذل المالُ دونه والرّقـاب

-المعيار الفني: عنده ليس محدداً بأشكال معينة في التجديد ولا محصوراً في قوالب تقليدية زخرفية ، بل تجاوز الزخارف المصطنعة الى الانفعال بالحدث، وحسن التعبير عن التجربة ، وجودة بناءها، فكان يجهد نفسه في البحث عن الألفاظ والتراكيب والمعاني المتداولة في الحياة العامة، ويذللها لشعره إذ يراها أنفذ الى مشاعر سامعيه من غيرها ، وأقدر على التأثير فيهم، حيث يدخل المتلقي في حالة شعورية ذهنية فكرية روحية ، فيشارك التجربة وينفعل معها.

أو مثال هذا الأبيات التي صورّ موقف النساء ومشاركتهن في الثورة والكفاح المسلح، وشجاعتهن الفائقة.

قد سبقن الرجال في البأس صبراً ** وتحملن فتنة الأضــداد
وأثرن الأبطال للثأر منهــم ** فاستبادوا زروعهم بالحصاد
كم غدونا الى جريح طريـحٍ ** فأسونا جراحه بالضمــاد
وحنونا على شهيد مجيــد ** خطّ تاريخه بأزكى مــداد

4-ارتبطت صوره الشعرية بمقاييس النقد القديم، تفتقد الى الغرابة والابتكار وتقترب من السطحية ، وبما أنّ التشبيه هو الأداة المفضلة عند القدامى ، فقد استخدمه "محمد العيد" بكثرة ، فهو يعتقد أنّ التشبيه هو الأقرب الى الواقع وألصق بالعقل، وأكثر تناسباً مع الاتجاه الشعري الذي اختاره الى نفسه، وهو الاتجاه الذي تغلب عليه النظرة الواقعية للأشياء ، ومن هذه التشبيهات في قصيدة"مالي وللأذى":

كن طاهراً كالملاك نفساً ** لاتظمر الحقد كالجمال
كمْ من أذى لم أعره بالا ** فغاص كالماء في الرّمال

5-هو مثله غيره من شعراء الجزائر (احتفظ بسمة من الوضوح ولم يوغل في الرّمزية وإن رمز في شعره فهو ليس بالايجابي الغامض ، لكنه نتاج ظروف سياسية واجتماعية فقط مثل ذلك قوله في الحرية:

من كان في العشاق باسمك ناطقاً ** فكأنماّ هو الناطق بمحالِ

حيث نلاحظ في هذا اليت الذي أشاد فيه بالحرية رمزٌ خفي حيث رمز لها بالحبيبة وهو إيحاءٌ ظاهر قريب جداً للمعنى واضح الهدف لايحتاج الى عناءٍ فكري.

6-استقى صوره من الطبيعة غالباً ، يقول محيياًّ من خلالها "جمال عبد الناصر"

إنّ الجزائر بوّأتك أرضهــا ** أكباد أحرارٍ لها وحرائــر
صحت إليك حدائقها بأزهارها ** وثمارها ضحك الحبيب السافر
واستقبلتك سهولها وحقولهــا ** وربيعها الزاهي بحسن المناظر

-اقتبس كثيراً من القرآن ، ونجد هذا على سبيل المثال لا للحصر في تلك القصيدة التي صور فيها هلاك الرومان الذي لحقهم بسبب ظلمهم وطغيانهم يقول:

فصبّ عليهم ربناّ سوط بأسه ** وعاقبهم عماّ جنوه بغائل

فكما هو واضح أن محمد العيد هنا اعتمد في رسمه لهذه الصورة على قوله تعالى في صورة الفجر ... فصبّ عليهم ربكّ سوط عذاب) .
وبقول ذلك في بيت جعل شطره آية قرآنية .

لا تأمن الغدر قلنا ** حسبنا الله و نعم الوكيل 

كما اقتبس من الحديث النبوي الشريف وذلك حين قال:

وإنّ من البيان لنا لسحراً ** وإنّ من القريض لنا لحكمه
وهذا مستلهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ من البيان لسحر وإنّ من الشعر لحكمة)

أخذ عن بعض سابقيه من الشعراء القدامى والمحدثين لفظا ومعنى وضمنه شعره ومن هذا قوله:

سئمت وإن كنت ابن عشرين حجّة ** حوادث لاتنفك مستعرات

فعبارة (عشرين حجة) نجدها في بيت للشاعر زهير بن أبي سلمى حيث يقول:

وقفت بها من بعد عشرين حجة ** فلأياًّ عرفت الدّار بعد توهّم
كما نجده قد استلهم من معاني الشعر الحديث في قصيدة بعنوان "يا قوْم هبّوا" يقول :

وإذا أراد الشعب نال مراده ** ولو أنّه كالنجم عزّ مثالا

وهذا قولٌ مستوحى من مطلع قصيدة إرادة الحياة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الذي يقول:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلا بدّ أن يستجيب القدر
-نلمس في شعره طابع المعاناة التي تتجدد بصورة واضحة إذا تحدث عن قضية وطنه الجزائر والقضايا العربية بصفة عامة ، فالشاعر مفعمّ بالروح العربية ، يعيش تلك القضايا بشعره وأعصابه وعقله، ولعلّ خير ما يذكر في هذا الشأن قضية فلسطين الجريحة .

إيه فلسطين الشقيقة لا اتنسي ** عن ردّ عدوان اليهود الأشنع
ويح القلوب فكلّ قلب شاعر ** متقطعٌ لأنينك المتقطــع
ويح العدالة والسلام فلا أرى ** غير العدالة و السلام بموجع

كما يعتبر التكرار من الميزات البارزة في شعر محمد العيد حيث نجده كثيراً ما يكررّ المعنى الواحد في القصيد الواحدة أو في قصائد أخرى أو تكرار الكلمة بعينها أو أشطارها ، بذاتها عدةّ مرات ، ويقصد من وراء هذا التكرار توكيد المعاني وإعطائها صفة الحمية والوجوب وقد يقصد بها إثارة الحماس في نفوس سامعيه حتى يستحوذ على مشاعرهم ، لأنه يدرك أن مهمته تكمن في إرضاء وجدان الآخرين لأني إرضاء وجدانه فقط لذا نجده يحاول التغلغل إلى أعماقهم ومخاطبة عيونهم وقلوبهم .
ونجده في تكرار العبارات يقول في قصيدته "الشعر والأدب" يقول:

أنا ابن جديّ وقومي السّادة العرب ** وحرفتي ماَ حييت : الشعر والأدب
انفقت وقتي في شعر وفي أدبٍ ** لاشغل عندي إلاّ : الشعر والأدب
ولا غذاء به أحيا بغير طوى ** منعم البالِ إلاّ الشعر والأدب

وللاشارة فإنّ هذه القصيدة بكاملها قد كرّرت عبارة الشعر والأدب في آخر كلّ عَجُـزٍ منها:
كما أنه يكرر الأصوات لتأثره بأسلوب القرآن الكريم ، فاستخدم هذا اللون من التعبير بمهارة فائقة لتمكنه من اللغة العربية وقدرته على انتقاء الكلمات ذات الجرس الصوتي المتطابق ، وهذا ما نراه في هذه المقطوعة .

أيّها الحراس الشداد الباس
لاتبّثوا اليأس في قلوب الناس تورقها الضّنى
زحزحوا بالفأس دفة المتراس
واتركوا الأنفس تستطيب الآس تنشق السَّوْسَنا
فحرف السين يدل هنا على الألم والحسرة اللذين يعاني منهما الشاعر، وبصور حالته النفسية إزاء أوضاع أمتّه المتردّية.

حافظً "محمد العيد" وغيره من شعراء الاصلاح على نمط القصيدة العمودية والالتزام الواضح بالايقاع الموسيقي المعتمد على الوزن والقافية .

وفي الاخير نقول ان محمد العيد آل خليفة جمع بين الإصلاح والتصوف فهو بذلك جمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة كما يمكن ان نعتبر شخصيته شخصية دينية اكثر منها ادبية وهذا ما لاحظناه من خلال كل ما سبق فعمله يلخص في ثلاث كلمات الكلمة الهادفة شعرا ، والكلمة الطيبة تربية والكلمة الصادقة اصلاحا كما يمكن ان نقول ان تجربته ناجحة صادقة ومؤثرة ..




مشاركة مع اصدقاء