- مدونة الرسائل الجامعية العربية

السبت، 2 فبراير 2013



تاريخ السيرة النبوية ( الجزء الثالث )
 
غزوة حنين والطائف

أولاً : غزوة حنين :-
لم يكد يمضي على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة خمسة عشر يوماً بعد الفتح، حتى سمع بقدوم هوازن، وعلى رأسها مالك بن عوف ومعهم ثقيف، وقد حشد مالك خلف الجند النساء والأطفال والأموال ليحول بينهم وبين الفرار. فلما أشار عليه دريد بن الصمة بإرجاعهم لئلا يثقلوا الجيش ويعيقوا حركته أبى ونزل حنيناً، وأوصى رجاله أن يكسروا جفون ( أغماد ) سيوفهم إذا لقوا المسلمين وأن يحملوا عليهم حملة رجل واحد.

بداية المعركة : -
لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء فإنه ندب إليهم من يتعرف على أمرهم. ولما عرف أنهم أعدوا عدتهم للحرب، فإنه خرج إليهم على رأس عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وألفين من أهل مكة.
ولما بلغوا حنيناً في الصباح الباكر، راعهم انقضاض القبائل عليهم من هوازن وثقيف من شعب الوادي، ففزع المسلمون واختل نظامهم، ولم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين وأقام الرسول ينادي: أين أيها الناس؟ هلموا إلي. ولم يبق حوله إلا نفر قليل من المهاجرين والأنصار وأهل بيت الرسول، واشتد الحال علـى المسلمين وعظم البلاء حتــى كانوا لا يسمعون نداء الرسول لهم.
فأمر الرسول العباس بن عبد المطلب - وكان جهوري الصوت - أن يصيح في الناس: يا معشر الأنصار.  يا أصحاب السمره. فأجابوه: لبيك لبيك، وسارعوا ناحية الرسول يتراكضون إليه راكبين وراجلين. و اجتمع حول الرسول مائة من الأنصار، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال‏:‏ ‏(‏الآن حَمِي الوَطِيسُ‏)‏‏.‏ ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرم بها في وجوه القوم وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا‏.‏
وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن‏.‏
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏}.
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري‏.‏
وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع‏.‏
وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم‏.‏ ‏

غنائم غزوة حنين :-
وكانت الغنائم‏:‏ السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف .
وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية, أخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها‏.‏



ثانياً: غزوة الطائف :
بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحبس سبايا المعركة ( حنين )  وأموالها الكثيرة في مكان يُدعى ( الجعرانه ) مجمداً التصرف بها، فإنه انطلق صوب الطائف حيث اعتصم المنهزمون بحصونها المنيعة وأعدوا العدة للقتال. ونزل قريباً منها حيث عسكر هناك.
وجرت مناوشات بين الطرفين ذهب ضحيتها نفر من المسلمين بنبال العدو، الأمر الذي دفع النبي صلى الله عليه وسلم لإبعاد عسكره عن مدى النبال. وظل يحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، قدمت خلالها وفود المناطق معلنة إسلامها، وقد حاول المسلمون اختراق حصون ثقيف إلا أنهم لم يتمكنوا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الأصلح الاكتفاء بهذا ثم أذن بالرحيل فقفل المسلمون عائدين إلى الجعرانه حيث الغنائم التي تنتظرهم.



 ثالثاً: تقسيم الغنائم بالجِعْرَانَة‏‏:
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لم يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، لكنه لم يأته أحد، فبدأ بتقسيم المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة‏.‏
أعطـى أبا سفيان بن حــرب أربعين أوقيـة ومائة مــن الإبل، فقال‏:‏ ابنـي يزيد‏؟‏
فأعطاه مثلها، فقال‏:‏ ابني معاوية‏؟‏ فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها‏.‏ وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة, وأعطى الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطى رجالاً آخرين من رؤساء قريش، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر, فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏.‏
ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، والله مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم‏ ) ‏‏.‏
وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم وزعها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة ، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة .
الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:
كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فبدأ الناس يتحدثون ويبدون اعتراضهم.‏
 روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم‏:‏ لقى والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال‏:‏ يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء‏ ‏قال‏:‏ ‏(‏فأين أنت من ذلك يا سعد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي‏‏ قال‏:‏ ‏(‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‏)‏‏.‏ فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا‏.‏ وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعـوا له أتاه سعد فقـال‏:‏ لقد اجتمع لك هذا الحـي من الأنصــــار, فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها علي في أنفسكم‏؟‏ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله‏؟‏ وعالة فأغناكم الله‏؟‏ وأعداء فألف الله بين قلوبكم‏؟‏‏)‏ قالـوا‏:‏ بلـى، الله ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا تجيبوني يا معشر الأنصار‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بماذا نجيبك يا رسول الله‏؟‏ لله ورسوله المن والفضل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أما والله لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ‏:‏ أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك‏)‏‏.‏
‏(‏أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم‏؟‏ ألا ترضون يا معشر الأنصـار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم‏؟‏ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار‏)‏‏.
فتأثر الأنصار بحديث النبي صلى الله عليه وسلم تأثراً بالغاً, فبكوا حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا‏:‏ رضينا برسول الله قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا‏.‏

رابعاً: قدوم وفد هوازن:
بعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا‏:‏ يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات.
فقال‏:‏ ‏(‏إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا‏:‏ إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا‏)‏، فلما صلـى الغداة قامــوا فقالوا ذلك‏.‏ فقال رسول الله صلــى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس‏)‏، فقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال الأقْرَع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا‏.‏ وقال عُيَيْنَة بن حِصْن‏:‏ أما أنا وبنو فَزَارَة فلا‏.‏وقال العباس بن مِرْدَاس‏:‏ أما أنا وبنو سُلَيْم فلا‏.‏ فقالت بنو سليم‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال العباس بن مرداس‏:‏ وهنتموني‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منـهن شيء فطـابت نفسـه بأن يـرده فسبيل ذلك، ومــن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا‏)‏،  فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية‏.‏  


خامساً: العمرة والانصراف إلى المدينة‏:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجِعْرَانة أهلَّ معتمراً منها، فأدى العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولى على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ‏.


غزوة تبوك

أولاً: أسباب الغزوة :
لم يقض قيصر الروم بعد معركة مؤتة سنة كاملة, حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الروم والعرب التابعين لهم من آل غسان وغيرهم، فبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة‏.‏ ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم تجمعوا على حدود فلسطين لقتال المسلمين ، ومعهم بعض القبائل العربية، فانه بادر الى دعوة المسلمين إلى الجهاد و التجهز للمسير .
- خطورة الموقف‏ :
مما زاد الموقف خطورة, أن هذه التطورات كانت في فصل القيظ الشديد، وكان الناس فــي عسرة وجدب وضيق حـال، وكانت الثمار قد طـابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في هذا الوقت الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة وصعبة‏.

ثانياً: التجهز للغزو والمسير:
لما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن للصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم‏.‏ وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، ووضح للناس أمرهم, ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت آيات من سورة براءة تحثهم على القتال، ورغبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق الأموال في سبيل الله ‏.‏ ‏

- تسابق الصحابة في تجهيز الجيش :
ما كان من المسلمين بعد أن سمعوا نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض و ثلاثة نفر من الصحابة ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, ليخرجوا إلى قتال الروم، فيعتذر لهم الرسول قال تعالى:‏ ‏{ ولا على الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلتَ ‏لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ‏ }.‏ ‏
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول‏:‏ ‏(‏ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم‏)‏ ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود‏.‏
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته‏.‏ وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال‏.‏ وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها‏.‏ وبعثت النساء ما قدرن عليه من أساور ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم .
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون الذين قال تعالى فيهم: ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

ثالثاً: التحرك الى تبوك :
بعد أن انتهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهيز الجيش، استعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل‏:‏ سِبَاع بن عُرْفُطَةَ، وخلف على أهله علي بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، فلمزه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال‏:‏ ‏(‏ ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي‏ )‏‏.‏
ثم تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب من السنة التاسعة من الهجره نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمــع الكبير قبله قط ـ فلم يستطـــع المسلمون مـــع ما بذلوه من الأمــــوال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان كل ثمانية عشر رجلاً يتناوبون بعيراً واحداً، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح ابلهم ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشها من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ‏.‏
ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القُرَى ـ فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً‏ ) ‏، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين‏)‏، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى اجتاز الوادي‏.‏
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء‏.‏
ولما قرب من تبوك قال‏:‏ ‏(‏إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي‏ ) ‏، قال معاذ‏:‏ فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها, فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل مسستما من مائها شيئاً‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ نعم‏.‏ وقال
لهما ما شاء الله أن يقول‏.‏ ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏( ‏يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جناناً ) .
وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه‏)‏، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ‏.‏ 
وكان دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما‏.‏

رابعاً: وصول جيش المسلمين الى تبوك :
نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة‏.‏ وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله صلى الله عليه وسلـم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا علـى التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البــلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأطرافها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة,  لعلهم لم يكونوا ليحصلوا عليها لو وقع اصطدام بين الجيشين‏.‏
بعد ذلك جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها، وكتب لصاحب أيلة‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر, فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر‏)‏‏.‏
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له‏:‏ ‏(‏إنك ستجده يصيد البقر‏)‏، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء‏.‏
لقد أيقنت القبائل بعد ذلك والتي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى وصلت الى حدود الروم مباشرة وقضي على عملائهم هناك.‏

خامساً: الرجوع إلى المدينة ‏‏:
رجع المسلمون من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفى الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند احدى العقبات حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقهــا، وأخذ الناس ببـطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم متلثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، فسأله الرسول عنهم فأخبره بأسمائهم, ثم أخبره الرسول أن هؤلاء منافقون وأخبره بأسماء بقية المنافقين وطلب منه ألا يخبر أحدا بأسمائهم, فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سـر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منها عشرين يوماً في تبوك، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهابًا‏.‏ وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وسلم‏.‏ 


سادساً : المخلفون:
وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من الله للمسلمين، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}.
‏ فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه‏)‏، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا‏.‏ نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين ابتلاهم الله، ثم تاب عليهم .
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله‏.‏
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نســاءهم، حتــى تمت علـى مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم تاب الله عليهم وأنزل توبته لهم في كتابه العزيز قال تعالى:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}.‏
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم‏.‏
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ .‏
وقال فيهم رسول الله حين دنا من المدينة‏:‏ ‏( ‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ‏)‏، قـالوا‏:‏ يا رسول الله، وهــم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وهم بالمدينة‏)‏‏.‏

سابعاً: أثر هذه الغزوة :
لقد كان لهذه الغزوة أعظم الأثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في جزيرة العرب سوى قوة الإسلام، وانتهت بقايا الأماني والآمال التي كانت تتحرك في قلوب الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيداً ولا مناصاً‏.‏
ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر الله بالتشديد عليهم، حتى نهى عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم والقيام على قبرهم، وأمر بهدم مسجدهم الذي بنوه ريبة وخداعاً للمسلمين، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً، فلم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، وكأن الآيات قد نصت على أسمائهم‏.‏
ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ الذروة بعد هذه الغزوة .




عالم الوفود – حجة الوداع – وفاته صلى الله عليه وآله وسلم

أولاً: عام الوفود :
كان لفتح مكة أثر عظيم في نفوس القبائل العربية سواء المسلمين منهم أو المشركين، وكان نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين على الوثنية، لذلك نجد أن كثيراً من الناس لما علموا بفتح مكة بادروا بالمجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا إسلامهم. وخاصة أن الكثير منهم إذا دُعوا إلى الإسلام تلوموا بقريش بأنها لم تسلم .
فمنذ الفتح والوفود تترى على المدينة وزاد عدد الوافدين إلى المدينة بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى أن هذا العام سمي بعام الوفود لكثرتهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على إكرامهم وإجازتهم ,
 ومن أشهر الوفود التي قدمت في هذا العام : -
وفد عبد القيس الثاني بزعامة الجارود  بن بشر بن المعلي - وفد عذره – وفد بلي - وفد ثقيف - وفد همدان - وفد بني فزارة - وفد نجران - وفد بني حنيفة  - وفد الأزد  - وفد بني عامر بن قيس - وفد بني أسد - وفد خولان -  وفد بني محارب.  وغيرهم من الوفود كثير سواء في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة.

ثانياً: حجة الوداع:
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل، فتَرَجَّل وادَّهَنَ ولبس إزاره ورداءه وقَلَّد بُدْنَه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحُلَيْفَة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح‏.‏ فلما أصبح قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آت من ربي فقال‏:‏ صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل‏:‏ عمرة في حجة‏)‏‏.‏
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها, في بدنه ورأسه، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مُصَلاَّه، وقَرَن بينهما، ثم خرج، فركب القَصْوَاءَ، فأهَلَّ أيضاً، ثم أهَلَّ لما استقلت به على البَيْدَاء‏.‏
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طُوَي، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ ـ وقد قضى في الطريق ثماني ليال، وهي المسافة الوسطى ـ فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يَحِلَّ ؛لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمـر مـن لم يكـن معه هَدْي من أصحـابه أن يجعلـوا إحرامـهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏)‏، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا‏.‏
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ـ وهو يوم التَّرْوِيَة ـ توجه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى خطبته الجامعة :

قال في مقدمتها:
(‏أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً‏)‏‏.‏
ثم واصل عليه الصلاة والسلام خطبته المشهورة, وبعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام منها نزل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏ ، ولما نزلت بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يبكيك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏
ثم واصل النبي صلى الله عليه وسلم أداء مناسك الحج ولما قضى منه, طاف طواف الوداع و حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله‏.‏




ثالثاً: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :
لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت ملامح التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله‏.‏
منها أنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارس مع جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً‏)‏، وقال وهو عند جمرة العقبة‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا‏)‏، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه‏.‏
وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلـــى المنبر فقــال‏:‏ ‏(‏إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها‏)‏‏.‏
وخرج في منتصف احدى الليالي إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقــال‏:‏ ‏(‏السلام عليكـم يـا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولى‏)‏، وبشرهم قائلاً‏:‏ ‏(‏إنا بكم للاحقون ) .

بـدايـة المـرض :‏‏
وفـي اليوم الثامن أو التاســع والعشرين من شــهر صــفر سنة11هـ ـ وكان يوم الاثنين ـ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع، وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سَوْرَتَها فوق العِصَابة التي تعصب بها رأسه‏.‏
وقد صلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 31، أو 41 يوماً‏.‏
وفي يوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اشتدت الحرارة  في بدنه الشريف، فاشتد به الوجع وأغمي عليه، فقال‏:‏ ‏(‏هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم‏)‏، فأقعدوه في مِخَضَبٍ ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول‏:‏ ‏(‏حسبكم، حسبكم‏)‏‏.‏
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة حتى جلس على المنبر، وكان آخـر مجلس جلسه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إلي‏)‏، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال‏:‏ ‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ ـ وفي رواية‏:‏ ‏(‏قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ ـ وقال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري وثناً يعبد‏)‏‏.‏
وعرض نفسه للقصاص قائلاً‏:‏ ‏من كنت جلدت له ظهْرًا فهذا ظهري، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏‏.‏
ثم نزل فصلــى الظهر، ثم رجـع فجلس علــى المنبر، وعـاد لمقالته الأولـى في الشحناء وغيرها‏.‏ فقال رجل‏:‏ إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال‏:‏ ‏(‏أعطه يا فضل‏)‏، ثم أوصى بالأنصار قائلاً‏ :‏ (‏أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم‏)‏، وفي رواية أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم‏)‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏(‏إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده‏)‏‏.‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ فبكى أبو بكر‏.‏ قال‏:‏ فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس‏:‏ انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول‏:‏ فديناك بآبائنا وأمهاتنا‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا‏.‏
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر‏)‏‏.‏ 

قبل يوم أو يومين :
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال‏:‏ ‏(‏أجلساني إلى جنبه‏)‏، فأجلساه إلى يسار أبي بكر, فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس نداء التكبير.
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحـته.

الاحتضار‏:
ثم بعد ذلك أخذ الوجع يشتد ويزيد, وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول‏:‏ إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته‏.‏ دخل عبد الرحمن ـ بن أبي وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت‏:‏ آخذه لك‏؟‏ فأشار برأسه أن نعم‏.‏ فتناولته فاشتد عليه، وقلت‏:‏ ألينه لك‏؟‏ فأشار برأسه أن نعم فلينته
و استن به كأحسن ما كان مستنا،  وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله، إن للموت سكرات‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ الحديث.
وما أن فرغ عليه الصلاة والسلام من السواك حتى رفع يده أو اصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول‏:‏ ‏(‏مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى‏.‏ اللهم، الرفيق الأعلى ) .
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى‏.‏

فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وكانت سنه حين الوفاة كما يذكر المؤرخون ثلاث وستون سنة وأربعة أيام‏.‏





مشاركة مع اصدقاء