- مدونة الرسائل الجامعية العربية

السبت، 2 فبراير 2013


تاريخ السيرة النبوية  ( الجزء 2 ) 


صراع المسلمين ضد الكفار بعد غزوة أحد ومعركة الأحزاب ( الخندق )

وجدت الوثنية العربية فرصتها للانتقام من المسلمين في أعقاب هزيمتهم في أحد وراحت توجه إليهم الضربات الغادرة كلما تمكنت منها، متجاوزة في ذلك أعرافها وقيمها الجاهلية التي درجت عليها مئات السنين .
أولاً: بعث الرجيع
  صفر من السنة 4 هـ
بعد وقت قصير من عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد قدم عليه وفد من قبيلتي " عضل " والقارة " في صفر، وقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة من أصحابه هم : مرثد بن أبي مرثد، خالد بن أبي البكر، متعب بن عبيد، عاصم بن ثابت، خبيب بن عدي، زيد بن الدثنة، عبد الله بن طارق.
وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد، فانطلق الدعاة حتى إذا بلغوا ماء الرجيع بين عسفان ومكة، حيث تقطن بنو هذيل، غدر بهم عضل والقارة، فشهروا عليهم السيوف ثم قالوا لهم: إنا لا نريد قتلكم ولكن نريد أن نصيب بكم مالاً من أهل مكة، فأما خالد ومرثد و عاصم ومتعب فإنهم قالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا ميثاقا فانطلقوا يقاتلون حتى قتلوا.
وأما الثلاثة الباقون فإن هذيل أسرتهم وحملتهم إلى مكة لتبيعهم بها، فقتلوا ابن طارق في الطريق لأنه حاول أن يتمرد عليهم , واقتيد زيد إلى مكة وخبيب ، فأما زيد فقد ابتاعه صفوان بن أمية ليقتلة ثأراً لأبية أمية بن خلف ، فأخذوه إلى مكان خارج مكة فقتلوه.
ثم خرجوا بخبيب إلى نفس المكان ليصلبوه فسألهم أن يمنحوه فرصة يركع فيها ركعتين، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سن ركعتي القتل عند المسلمين .

ثانياً : وقعة بئر معونة
  صفر من السنة 4 هـ
في صفر من نفس العام ، قدم أبو براء عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة على رسول الله في المدينة ، فعرض عليه الرسول الإسلام فلم يسلم ، ولم يبعد من الإسلام وقال : يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، وقد ضمن أبو براء سلامة هؤلاء الدعاة فقال : أنا جار لهم فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
اختار النبي صلى الله عليه وسلم أربعين من أصحابه وجعل عليهم المنذر بن عمرو، حتى نزلوا من بئر معونة قريباً من ديار بني عامر ، وتقدم حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعيم القوم عامر بن الطفيل لكن عامرا، ما أن نظر في الكتاب حتى عدا على حرام فضربه برمح في جنبه خرج من الشق الآخر، وهو ينادي : فزت ورب الكعبة، ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه ، التزاما بجوار أبي براء ، فاستصرخ لهم بقبائل سليم المجاورة ، فأجابوه وأحاطوا بالدعاة وهم في رحالهم ، فهرعوا إلى سيوفهم وقاتلوا القوم قتالاً مريراً ، حتى استشهدوا جميعاً  باستثناء كعب بن زيد فقد انسحب جريحاً من المجزرة ، وتمكن من الوصول إلى المدينة حيث قتل شهيداً في الخندق .
ثالثاً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر
  ذي القعدة من السنة 4 هـ
وفي ذي القعدة من السنة الرابعة للهجرة ، حل الموعد الذي ضربه المسلمون مع أبي سفيان للقاء جديد في بدر، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هناك على رأس ألف وخمسمائة من أصحابه، وأقام ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، الذي كان قد غادر مكة على رأس مقاتليها، وعند ما بلغ مر الظهران، بدأت تتناوشه المخاوف من لقاء المسلمين، وأخذ يفكر بالرجوع قائلاً: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فقفلوا عائدين إلى مكة .
وعندما أيقن النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان قد نكل عن الموعد عاد إلى المدينة، وقد حقق نصراً معنوياً ضد قريش، كما عزز مكانة المسلمين في الصحراء بعدما تعرضت له من تأرجح في أعقاب أحد.
وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم في أعقاب ذلك صوب قبائل نجد رداً على ما لحق بدعاته في مأساتي، الرجيع وبئر معونة، فيما سمي بذات الرقاع: بسبب الحجارة التى أوهنت أقدامهم فشدوا عليها رقاعاً، وربما لوجود جبل هناك بهذا الاسم. إلا أن غطفان كبرى قبائل نجد جمعت للرسول صلى الله عليه وسلم جمعاً عظيماً، وعندما تقارب الطرفان، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه من المجازفة الاشتباك مع قوات تفوق المسلمين أضعافا مضاعفة فقفل عائداً إلى المدينة   .
 
رابعاً : معركة الخندق
أسبابها :
عندما بدأت الهزائم تحدق باليهود ، لا سيما بعد إجلاء بني النضير، رأى هؤلاء أن يتحركوا بوجه السرعة لتوجيه ضربة قاصمة للدولة الإسلامية قبل أن يشتد ساعدها.
وأدركوا أن استثارة قريش وحدها ضد المسلمين أمر غير مضمون العواقب وإن انفراد كل قوة وثنية لوحدها في مواجهة المسلمين، سوف يمكن المسلمين من تصفيتها واحدة بعد الأخرى، فلا بدا إذن أن تتجمع القوى الوثنية كلها بزعامة قريش وتتحرك لاستئصال شأفة الإسلام ومن ورائها مكر اليهود وأموالهم.
خرج خمسة من زعماء اليهود وهم: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب (من بني النضير) وأبو عمار، وهوذا بن قيس (من بني وائل) وقدموا إلى مكة واتصلوا بقادة قريش ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم إنا سنكون معكم حتى نستأصله، فاستجابت قريش لهذا العرض وخاصة أنهم كانوا يعانون من الحصار الاقتصادي الذي فرضه المسلمون عليهم.
ثم انطلق هؤلاء النفر الخمسة إلى غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين لقاء إعطائهم تمر خيبر مدة سنة، وأخبروهم بأنهم سيكونون معهم وأن قريشاً قد أعدت العدة لهذا الأمر، وكذلك فعل اليهود مع عدد من القبائل اليهودية الأخرى.

بداية المعركة :  
انطلقت الأحزاب الوثنية البالغ عددها عشرة آلاف مقاتل صوب المدينة (قريش وأحلافها من بنى كنانة وأهل تهامة والأحابيش يقودها أبو سفيان بن حرب) وغطفان يقودها عيينة بن حصن الفراري، وبنو مرة يقودها الحارث بن عوف وأشجع يقودها مسعود بن رخيلة.
وما أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم بأنباء التحرك الخطير حتى بدأ يخطط لصد أكبر هجوم على الإسلام منذ مولد الدعوة الإسلامية ، فاستشار أصحابه. فأشار سلمان الفارسي إلى ضرورة وضع خندق للمدينة من الجهة الشمالية لأنها هي المنفذ الوحيد الذي يستطيع الكفار من خلاله الدخول للمدينة ففي الشرق والغرب حرار وفي الجنوب أشجار ونخيل كثيفة ليس من السهل الدخول من خلالها.
فاقتنع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة فعمل مع أصحابه على حفر الخندق. فقسم الرسول أصحابه إلى مجموعات كل منها تتكون من عشرة أشخاص كلفوا بحفر أربعين ذراعاً. وأسهم عليه الصلاة والسلام بنفسه في حفر ذلك الخندق الذي استغرق العمل فيه ستة أيام متواصلة وبلغ طوله اثني عشر ألف ذراع.
ثم بعد ذلك عسكر عليه الصلاة والسلام بثلاثة آلاف مقاتل وراء الخندق جاعلاً ظهورهم إلى جبل سلع، ثم وزع النساء والأطفال في القلاع الحصينة كي يتمكن المسلمون من التحرك بسهولة ويسر إذا حدث وتسرب المشركون إلى الداخل.
كما شكل كتائب من أصحابه أمرها بأن تعسكر في جهات المدينة الأخرى لاسيما وأن هنالك مناطق في الشرق والغرب والجنوب يمكن اجتيازها دون عناء كبير، كما شكل جماعات أخرى تتجول في المدينة لحراستها من غدرات اليهود وتُظهر التكبير من أجل رفع معنويات أهلها، وأسهم بنفسه في حراسة الخندق أسوة بأصحابه فكان يبيت منفرداً في بعض الأحيان خشية أن يتسلل منه المشركون

خريطة توضيحية للخندق     

                             



وصول قريش وحلفاؤها :
أقبلت قوات الأحزاب البالغة حوالي عشرة آلاف مقاتل وعسكرت قريباً من المدينة في الجهات الممتدة شمالاً، وسرعان ما فوجئوا بالخندق وقد سد عليها الطريق إلى المدينة. فقرروا أن يضربوا الحصار على المسلمين.
استمر الحصار قرابة الشهر، بدايته كانت في شوال ونهايته في اليوم السابع من ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة.
حاولت قريش أن تتسلل من الخندق إلى داخل المدينة إلا أن المسلمين كانوا بالمرصاد لمن تسول له نفسه اقتحام هذا الخندق ، فكل المحاولات باءت بالفشل. أيضاً حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتت جبهة الأحزاب، وكان من حسن
الحظ أن يوجد بين صفوف المسلمين رجلاً حديث عهد بالإسلام هو: ( نعيم بن مسعود) فعرض خدماته على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن استطعت أن تخذل عنا القوم فافعل .
وبالفعل تمكن نعيم بن مسعود من زرع بذور الفرقة بين كفار قريش وبين (بني قريظة )، فتصدع ذلك التحزب وذلك التجمع الذي تقوده قريش وحلفاءها.
ثم ما لبث أن جاء نصر الله العظيم متمثلاً في رياح شتائية شديدة البرودة سلطها الله سجانه وتعالى على معسكرات المشركين فراحت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم وتنزع خيامهم , فلم يعد يقر لهم معها قرار.
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبر القوم.
فرجع حذيفة ومعه خبر اندحار المشركين ورحيلهم بعد أن لعبت فيهم الرياح وشتتهم ومزقتهم شر ممزق.

نتيجة المعركة :
لاشك أن ارتداد الأحزاب عن المدينة يعد نصراً عظيماً للمسلمين، وقد كان له أثر كبير فيما بعد من رفعة وعزة للإسلام والمسلمين وانتشار لقوته ودعوته.
فأصبح العرب المتربصين والأعداء المنافقين في المدينة يرون في هذه النتيجة دلالة النصر الرباني والقوة المعنوية العظيمة. فوقفوا عند حدهم, ولم يفكر المكيون فيما بعد بمتابعة عدوانهم, ولم يعد بالإمكان بعد هذا اليوم أن يجتمع خصوم
المدينة على هذه الصورة، ثم أصبحت قريش تشك في ولاء القبائل العربية كما أصبحت القبائل نفسها تشك في قدرة قريش وفي إمكانها التغلب على المسلمين .


غزوة بني قريظة – غزوة بني المصطلق – حادثة الإفك
– صلح الحديبية – مكاتبة الملوك والأمراء

أولاً : غزوة بني قريظة :  
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من جبل سلع بعد رحيل قريش ووصل إلى المدينة ظهراً، دخل بيت عائشة رضي الله عنها ثم خرج، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس: " من كان سميعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة " فتلاحق المسلمون وخرج علي بالراية، وكانت على حالها لم تطو بعد. ولما علم بنو قريظة بجيش المسلمين خارت قواهم وأيقنوا بالهلاك. فتبرموا مما ارتكبوه من الغدر وسألوا الرسول العفو، فأبى ذلك عليهم وشدد الحصار خمسة وعشرين يوماً، حتى نزلوا على حكمه وسألوا حلفاءهم الأوس أن يتوسطوا في إطلاقهم كما توسط الخزرج في إطلاق حلفائهم من بني قينقاع.
فتواثب الأوس وقالوا: يا رسول الله إنهم كانوا من موالينا، فقال لهم رسول الله: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك الى سعد بن معاذ.
فلما جيء بسعد قاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فأخذ سعد عهد الله وميثاقه على الفريقين أن الحُكم فيهم لما سيحكم به، فأجابوه وأجابه الرسول: أن نعم. قال سعد: فإنى أحكم بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال له رسول الله: لقد حكمت فيهم بحكم الله، ثم حفرت لهم الخنادق وضربت أعناقهم جميعاً، وكانوا نحو سبعمائة.
ولم يقتل من نسائهم إلا امرأةً واحدة تسمى بنانه زوجة الحكم القرظي، لقتلها خلاد بن سويد برحى طرحتها عليه فمات فقتلها الرسول في خلاد.
وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة وسباياهم بعد أن عزل الخمس لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.



ثانيا: غزوة بني المصطلق أو المريسيع ( شعبان سنه 6هـ ) :
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني خزاعة (من حلفاء بني مدلج ) قد عولوا على حربه بزعامة الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث زوج الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما سمع الرسول بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المُرَيْسيع قرب قديد, وحلت الهزيمة ببني المصطلق وأسر المسلمون كثيراً من نسائهم وإبلهم .

أثر هذه الغزوة في حياة الأمة الإسلامية :
لقد كان لهذه الغزوة أثر كبير في حياة الأمة الإسلامية لقيام النزاع فيها بين المهاجرين والأنصار قياماً كاد يؤدى إلى انفصام عرى الوحدة بين المسلمين , وزواج الرسول بجويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق، ثم وقوع حادثة الإفك التي كدرت حياة عائشة أياماً وأرجف بها المبطلون ورموها في أعز شيء لديها.
وفي أثناء عودة المسلمين الي المدينة، راح رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول يحض قومه على طرد المهاجرين وعود الحال على ما هو عليه قبل الهجرة ( إذ أنه كان يطمع في سيادة يثرب قبل الهجرة ) فكان يقول: عن المهاجرين لقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله مانحن وأياهم الا كما يقول القائل: " سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " وسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عمر عليه بقتل عبد الله بن أبي، فنهاه وقال : كيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا أن محمداً يقتل أصحابة ؟



 
ثالثاً: حادثة الإفك:
كانت عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة. وفي أثناء عودة المسلمين إلي المدينة حدثت حادثة الإفك التي أذاعها دعاة السوء حول السيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك حين رأوا صفوان بن المعطل يقود بعيرها في المدينة عند عودتها من غزوة بني المصطلق فاتهموها إفكاً وبهتاناً. ولكن الله عز وجل لم يلبث أن برأ السيدة عائشة مما رميت به، وجعل حصانتها قرآناً يتلى الى يوم الدين.
فقال تعالى: في سورة النور ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خيرٌ لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) . ثم قال تعالى: ( اذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم، وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) .

رابعاً : صلح الحديبية :
في السنة السادسة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة، وهي زيارة البيت الحرام في غير موسم الحج، في ألف وأربعمائة من المسلمين، فوقف القرشيون في طريقه على مقربة من مكة يمنعونه من دخولها، فندب الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان للذهاب إلى قريش لمكانته منهم واستطلاع أنبائهم ومعرفة السبب في منعهم المسلمين من أن يطوفوا ببيت الله ويعظموه، فحجزت قريش عثمان لديها، وشاع بين المسلمين أنه قتل. عندئذ تأهب الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال قريش، وبايعه من كان معه من المسلمين على حربها وسميت هذه البيعة بيعة الرضوان. ولما علمت قريش بأمر هذه البيعة أسقط في يدها وأرسلت البعوث إلى الرسول تفاوضه في العدل عن دخول مكة هذا العام، ، وكان يرأس هذا الوفد سهل بن عمرو ( وهوخطيب مفوه ) .
وتم الاتفاق على الآتي :
1.      أن تضع الحرب أوزارها بين الفريقين عشر سنين.
2.      أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه من قريش سلماً بدون إذن وليه.
3.      ألا تلتزم قريش برد من يأتي إليها من عند محمد.
4.      أن من أحب الدخول في عقد قريش وعهدها فله ذلك، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه.
5.      أن يرجع الرسول هذا العام من غير عمرة، على أن يأتي في العام التالي فيدخل مع أصحابة مكة بعد أن تخرج منها قريش، ويقيم بها ثلاثة أيام وليس معهم من السلاح إلا السيوف في القرب ( الأغماد ) .
وكما يلاحظ من بنود هذه الاتفاقية والهدنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم فيها شيئاً من التنازل، ومن الطبيعي أن يجد المسلمون في أنفسهم شيئاً من الغبن والغيظ بسبب هذا التنازل ، وقد ظهر بعض هذا الغيض بعد كتابة المعاهدة مباشرة ، حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلقوا وينحروا فامتنعوا ، فأشارت أم سلمه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل هو ذلك ولا يكلم أحداً , وبالفعل لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم حلق ونحر ، فإنهم فعلوا كما فعل عليه الصلاة والسلام .
وقد تجرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن ألح عليه المسلمون بمفاتحة النبي في هذا الأمر فقال عمر: " ألست رسول الله فقال: بلى قال: أولسنا مسلمين، قال : بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ".
فأجابه عليه الصـلاة والسـلام " أنا عبد الله ورسوله لن أخلف أمره ولن يضيعني " .

نتائج هذا الصلح :
لقد عدَّ الزهري هذا الصلح فتحاً عظيما للإسلام إذ يقول: فما فتح في الإسلام قبله أعظم منه .. ونستطيع أن نوجز أهم النتائج في الآتي : -
§         دخول أعداد كبيرة من المشركين في الإسلام ، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الحديبية في 1400 ثم خرج في فتح مكة بعد سنتين على رأس عشرة آلاف رجل.
§         إن دخول قريش في عهد مع المسلمين يمثل اعترافاً منها بالدولة الفتية والدين الجديد بعد حرب الإفناء الطويلة التي شنتها ضدهما.
§         تخلي كثير من القبائل العربية عن موقفها حيال قريش ، وأن هذه القبائل رأت نفسها في حل من الانتماء لزعامتها والارتباط بمصيرها.
§         أن هذه الهدنة فتحت المجال أمام المسلمين لكي ينشطوا وينتشروا في الآفاق لكسب مزيد من الأصدقاء والحلفاء المنتمين إلى الدين الجديد، مستغلين فترة السلم التى أتاحتها شروط الحديبية.
§         ضعف مركز قريش الحربي بسبب انضمام خزاعة إلى معسكر المسلمين، وكانت قريش قبل ذلك تعتمد عليهم اعتماداً كبيراً في حربها ضد المسلمين.
§         انتشار الإسلام في اليمن، وهذا الأمر جعل قريش محاطة بالمسلمين من الشمال والجنوب.
§         أن النبي صلى الله عليه وسلم استغل فترة الهدنة مع قريش، فأخذ يرسل السرايا تلو السرايا، والجيوش تلو الجيوش، لتأديب اليهود وبعض القبائل العربية المعادية للإسلام.
§         توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بعض دعاته وسفرائه إلى كبار أمراء العرب الوثنيين وزعمائهم ومشايخهم يدعوهم إلى الإسلام.
خامساً: مكاتبة الملوك والأمراء:
في أواخر السنة السادسة حينما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام  
ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له‏:‏ إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة ، نقشه ‏:‏ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر ‏:‏ محمد سطر ، ورسول سطر، والله سطر‏.‏ واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة ، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم بعض المؤرخين أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام‏.‏ وفيما يلي اسماء الملوك الذين كتب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتبا مع نماذج مختاره لبعض تلك الرسائل الموجهة لهم:
                                              ‌أ-          النجاشي ملك الحبشة .
                                           ‌ب-       المقوقس ملك مصر .
                                            ‌ج-        كسرى ملك فارس .
                                             ‌د-         قيصر ملك الروم‏‏
                                              ‌ه-         المنذر بن سَاوى‏‏ ملك البحرين
                                             ‌و-         هَوْذَة بن علي صاحب اليمامة‏‏
                                             ‌ز-        الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق‏
                                            ‌ح-         جيفر ملك عُمَان‏ ‏ ‏
·        كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية :
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ” ‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏‏‏“ .
·         كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس‏:‏
‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فـارس، سـلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك .
·        كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل‏:
‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ”يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏‏“
·        كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين:
‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك‏.‏ ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية .
إذن بهذه الكتب يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كـفر.

غزوة خيبر – عمرة القضاء – معركة مؤته

أولاً: غزوة خيبر:
لما أزال الله عز وجل من المدينة خطر الأحزاب من قريش ومن والاهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حول اهتمامه إلى اليهود، ليؤدبهم على نقضهم العهود وتحالفهم مع أعدائه من مشركي مكة وغطفان، فابتدأ ببني قريظة كما أسلفنا الذين خذلوه ونقضوا عهده، ثم أمضى شطراً كبيراً من السنة السادسة في محاربة يهود وادي القرى وفدك.
ثم بعد ذلك أخذ يعد العده لغزو خيبر التي آوت إليها سادة بنى النضير وأشرافهم، وأخذوا يعقدون المحالفات ويفاوضون يهود فدك على نصرتهم، على أن يكون لهم تمر خيبر (التي تقع على مسيرة خمسة أيام من المدينة .
ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية فإنه أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر، فسار عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى وادي الرجيع في الليل، وأناخ بها، فلما أصبح الرسول ركب إلى خيبر دون أن يحس أهلها، حتى بلغها والعمال قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه رجعوا هاربين إلى حصونهم. ولما همت غطفان بنصرة خيبر وجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزل بوادي الرجيع بينهم وبين خيبر ليحول دون مساعدتهم إياهم فرجعت، وأخذ الرسول في مهاجمة الآطام ( الحصون ) ، فاستولى على حصن ناعم ثم حصن القموس، وهو حصن أبي الحقيق، وامتنع على المسلمين حصن الصعب بن معاذ مدة حتى جهدوا من طول الحصار ونفد ما عندهم من القوت .
فبلغت الحالة في جيش المسلمين أن اضطروا إلى أكل الحمر الأهلية ، فنهاهم الرسول عن ذلك وأجاز لهم أكل الخيل ، حتى تمكنوا من فتح حصن الصعب بن معاذ، وكان به طعام كثير، فتزود المسلمون منه ثم واصلوا فتح الحصون الأخرى.
إلا حصني الوطيح والسلالم ، فقد اعتصم بهما اليهود ودافعوا عنهما حتى قطع الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم الماء وأيقنوا بالهلاك , فسألوه أن يحقن دماءهم ففعل ، ثم سألوه أن يبقيهم على الأرض يزرعونها لأنهم أعلم بها، على أن يكون لهم نصف ما تغله الأرض ويؤتيه النخيل, فأجابهم الرسول إلى ذلك وقال لهم: " على أنا إن شئنا أخرجناكم " فلما سمعت فدك بغزو خيبر وما عاهد أهلها عليه، صالحوه على مثل ذلك بدون حرب ولا قتال.
وكذلك صنع يهود تيماء إلا وادي القرى، فقد تمسكوا حتى هاجمهم الرسول وأضطرهم إلى التسليم.






قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين :‏‏
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه .
قال أبو موسى‏:‏ بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا واخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي، ركبنا سفينة ، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفراً وأصحابه عنده ، فقال‏ :‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا ، فأقمنا معه حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر فأسهم لنا وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه ، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم .
ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال ‏:‏ ‏( ‏والله ما أدري بأيهما أفرح‏؟‏ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر‏)‏‏.‏
وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه ، فأرسلهم النجاشي على مركبين ، وكانوا ستة عشر رجلاً ، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم ، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك .

الزواج بصفية‏‏ رضي الله عنها:
كانت صفية من ضمن السبايا بعد أن قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق لغدره ، ولما جُمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال ‏:‏ يا نبي الله ، أعطني جارية من السبي ، فقال‏:‏ اذهب فخذ جارية ، فأخـذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل الـى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك ، قال‏ :‏ ‏(‏ادعوه بها‏)‏‏.‏ فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال‏ :‏ ‏( ‏خذ جارية من السبي غيرها‏ )‏ ، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت ، فأعتقها وتزوجها ، وجعل عتقها صداقها ، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعاً إلى المدينة جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل فأصبح عروساً بها وأولم عليها بشيء من التمر والسمن والسَّوِيق وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها‏.‏
ورأى بوجهها خُضرة، فقال‏:‏ ‏(‏ ما هذا ‏؟ ‏‏)‏ قالت‏:‏ يا رسول الله ، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه ، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي‏ .‏ فقال‏ :‏ تمنين هذا الملك الذي بالمدينة ‏.‏
أمر الشاة المسمومة‏:
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ؟‏ فقيل لها‏ :‏ الذراع فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع ، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها ، ولفظها، ثم قال ‏:‏ ‏(‏إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم‏ )‏ ، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال‏ :‏ ‏(‏ما حملك على ذلك‏ ؟‏‏)‏ قالت‏ :‏ قلت ‏:‏ إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر‏.‏
واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها ، والراجح بأنه تجاوز عنها أولاً ، فلما مات بشر بن البرا ء بن معرور بسبب الشاة قتلها قصاصاً .

قتلى الفريقين في معارك خيبر:‏
تذكر المصادر أن عدد من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً ، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار‏ .‏
ويقال‏ :‏ إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 19 رجلاً‏.‏ وقيل 18 رجلا.  أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً‏.‏

ثانياً : عمرة القضاء :
قال الحاكم‏:‏ تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم ، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية ، فخرجوا إلا من استشهد ، وخرج معه آخرون معتمرين ، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان .
واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة، ولبى، ولبى المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يأجج خارج مكة وضع جميع الأسلحة وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب‏:‏ السيوف في القُرُب‏.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون‏.‏
وخـرج المشركـون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم‏:‏ إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين‏.‏ ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك ليُري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسري‏.‏ ‏
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز الشعر متوشحاً بالسيف.‏
وفي حديث أنس فقال عمر‏:‏ يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل‏)‏‏.‏
ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا‏:‏ هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا‏.‏

ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد أوقف الهدي ‏عند المروة، قال‏:‏ ‏(‏هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر‏)‏، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا‏.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا‏:‏ قل لصاحبك‏:‏ اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها‏.‏ ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة ، تنادى ، يا عم يا عم ، فتناولها علي، واختصم فيها علي وجعفر وزيد ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها كانت تحته .
وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبنى بها بسرف‏.‏
وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء‏:‏ القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح‏.‏


ثانياً:غزوة مؤته ( جمادى الأولى سنة 8 هـ ) :
سبب المعركة : -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحارث بن عميرالأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى ، فتعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني ( وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر الروم ) فأوثقه ثم قدمه وضرب عنقه.
فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار فجهز جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلامي ، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.

المعركة :
انطلق ذلك الجيش في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة بقيادة مولاه زيد بن حارثة، فلقيته جموع هرقل امبراطور الروم عند مؤته، وهي قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، فأبلى زيد بلاءً حسناً في الجهاد حتى استشهد في سبيل الله، فتولى امرة المسلمين عبد الله بن أبي رواحه، فاستشهد وكان في الخامسة والخمسين من عمره فخلفه جعفر بن أبي طالب، فلحق به، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد فأبلى في الجهاد, فروى البخاري رواية عن خالد بن الوليد أنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وقد نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر من استشهد من القواد في هذه الغزوة، فصعد النبي وخطـب المسلمين خطبة أخبرهـم فيها بقتل زيد ومن خلفه من القادة إلى أن قال: " ثم أخذا الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه " فسمي بسيف الله منذ ذلك الوقت.

قتلى الفريقين :
استشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم‏.‏
أثر المعركة :
هذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا المرارة لأجله ، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، اذ إنها أدهشت العرب وحيرتهم ، فقد كان الروم أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض ، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر‏.‏ كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقاً‏.‏ ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها‏.‏

وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية‏.




فتح مكة
أولاً : أهمية هذا الفتح :
لاشك أن لهذا الفتح أهمية قصوى في حياة المسلمين يقول ابن القيم‏ رحمه الله عنه:‏ هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً.

ثانياً: سبب فتح مكة:
ذكرنا سابقا أن بنداً من بنود صلح الحديبية يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى ( وقد كانت بين القبيلتين عداوات وتوترات في الجـاهليــة ) إلا أن قبيــلة بكــر نقضت العهد وأحبت أن تثأر من خزاعة, فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بنى بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له " الوتير " فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل.
ولما دخلت خزاعة إلى مكة لجأوا إلى دار بُديل بن ورقاء الخزاعي، فأسرع عمرو بن سالم الخزاعي فخرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه, وهو جالس بين ظهراني الناس فقال:
يارباني ناشدٌ محمداً حلفنا وحلف أبيه الأتلدا
قد كنتم وُلداً وكنا والدا ثُمَّة أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أبداً وادع عبــاد الله يأتـــوا مـــددا
فيهــم رسول الله قد تـجردا أبيضَ مثل البدر يسمو صُعدا
إن سيـم خسفاً وَجهُهُ تربدا في فيلق كالبحر يجري مُزبدا
إنَّ قريشـاً أخلفوك الموعدا ونقضـــوا ميثـاقــك المُؤَكـَّـدا
وجعلوا لي في كََدَاء رَصَدا وزعموا أن لستُ أدعـو أحدا
وهـــــم أذل وأقــــل عـددا هــــم بيتـونـا بالوتيــــر هُجَّدا
وقتلـونا رُكَّــــعاً وَسُجــــدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏( ‏نُصرت يا عمرو بن سالم‏ )‏، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال ‏: ‏( ‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب‏)‏‏ , ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة‏.‏

ثالثاً: التجهز والمسير إلى مكة :
حاولت قريش أن تتدارك هذا الخطأ العظيم الذي ارتكبته في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين عامة، فأرسلوا أبا سفيان إلى المدينة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه وكذلك الصحابة رضي الله عنهم فرجع خائباً وخاسراً فأخبر قريش بفشل مسعاه. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعد العدة، وحرص أثناء التجهز على كتمان الأمر حتى عن أقرب أصحابه إليه من أجل أن يفاجئ مكة بهجومه الحاسم فلا تستطيع مقاومة ودفاعاً وتذعن للأمر وتحقن الدماء.
-
وما أن تم الاعداد والتجهز حتى انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جهة مكة في 10 رمضان سنة 8 هـ وأمرهم بالجد والتهيؤ وقد ذكر الواقدي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة ولا يعلم أحد وجهته فقائل يقول يريد قريشاً, وقائل يقول هوازن, وآخر يقول يريد ثقيفاً ولم يعقد الألوية حتى بلغ " كديد ".

رابعاً: قصة حاطب بن أبي بلتعة :
ولما علم المسلمون بوجهة النبي صلى الله عليه وسلم, حاول حاطب بن أبي بلتعه وهو من أصحاب بدر، أن يبلغ قريش بهذا الأمر فكتب كتاباً وأعطاه امرأة فأخفته في طيات شعرها وانطلقت صوب مكة، وجاء الوحي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر, فأرسل علي والزبير فتداركا المرأة فأخذا الكتاب منها , وأسلماه للنبي صلى الله عليه وسلم. فدعى النبي صلى الله عليه وسلم حاطب وقال له ما حملك على هذا؟ فقال: " أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكن كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة, وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه " فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر فلعل الله اطلع على أصحاب بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم, فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مر الظهران عسكر بها ومعه عشرة آلاف من المـهاجرين والأنصار. ويُذكر أن أبا سفيان ومعه رجل من أصحـابه خرجا ليتحسسا الأخبار فرأوا نيران المعسكر، فلما رآهما العباس قدم إليهما وأخبرهما بالخبر، بهدف أن يستأمن زعماء قريش من النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لن يستطيعوا المقاومة. ولما علم أبو سفيان بالخبر ذهب مع العباس لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم أما الرجل الآخر فإنه قفل راجعاً.
وفي الصباح أُحضر أبا سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ”ويحك يا أبا سفيان ألم يأنلك أن تعلم أنه لا إله الا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك .
فكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقولته فقال أبو سفيان: أما هذه فو الله فإن في النفس منها حتـى الآن. فقال له العباس ويحــك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن نضرب عنقك. عند ذاك أعلن أسلامه .
بعدها أعلن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن " فذهب أبو سفيان إلى مكة وأخبر رجالات قريش بما رآه ثم دخل منزله فقال من دخل دار أبو سفيان فهو آمن.
ثم بعد ذلك وزع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مكة ليدخلوها من جهاتها الأربع ، وبالفعل دخلوها بسهولة بالغة ولم يحدث إلا اشتباكات بسيطة لا تذكر فتمت سيطرة المسلمين على مكة في العشر الأواخر من رمضان.

ثم بعد ذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فطاف حولها سبعاً وطاف معه المسلمون وتكبيراتهم تملأ عنان السماء، ثم بعد ذلك دخل الكعبة و حطم الأوثان الموجودة بها وهو يقول: " قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ".
بعدها وقف عليه الصلاة والسلام على باب الكعبة وخطب الناس خُطبة عظيمة ... إلى أن قال يا معشر قريش ما تظنون إني فاعل بكم؟ فأجابوه بصوت واحد:خيراً, أخو كريم وابن أخ كريم. فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

خامساً:اهدار دماء بعض كفار أهل مكة :
لقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء بعض كفار أهل مكة وهم تسعة نفر, وأمر بقتلهم وان وجدوا تحت أستار الكعبة, وهم: عبد العزى بن خَطل - عبد الله بن سعد بن أبي سرح - عكرمة بن أبي جهل - الحارث بن نفيل – قيس بن صبابههبار بن الأسود – قينتان لابن خَطل كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلمسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب ( وهي التي وجد معها كتاب حاطب ) . فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه، فحقن دمه، وقبل إسلامه, وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة‏.‏
وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه .
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة ، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال‏:‏ (‏اقتله‏)‏ فقتله‏.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نُميلة بن عبدالله ، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك ، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين .
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي‏ رضي الله عنه.
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه‏.‏
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت‏.‏
قال ابن حجر‏:‏ وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طُلاطل الخزاعي، قتله علي رضي الله عنه‏.‏ وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاة ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب‏.‏ ‏
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول‏.‏
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفـى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف‏.‏
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية‏.‏
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تمامًا‏.‏ ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين‏.‏







مشاركة مع اصدقاء