دراسة تفصيلية لثلاثية محمد ديب تحضيرا لمادة اللغة العربية مسابقة 2016
شهدت خمسينات هذا القرن ظهور ثلاثيتين كبيرتين تعتبران بحق حدثاً بارزاً مهما في تاريخ الرواية العربية عامة، وفي النتاج الروائي الواقعي على نحو خاص: أولاهما ثلاثية ((الجزائر)) لمحمد ديب، والثانية ثلاثية نجيب محفوظ.
ولقد طمحت كلتا الروايتين إلى تصوير الواقع العربي سواء في الجزائر أو في مصر، تصويراً حياً، فوفقتا في ذلك أبعد توفيق. وإذا كان محمد ديب قد كتب أثره هذا باللغة الفرنسية، فإن نتاجه يظل عربي القلب والفكر، فبيئته وأبطاله ومشكلاتهم هي من الواقع العربي في الصميم، بكل ما فيه من فقر وتخلف ورغبة في التحرر السياسي والاجتماعي، وليس فيه من الفرنسية إلا اللسان الذي فرضه الاستعمار حوالي قرن ونيف، وأن في دراسة هذه الثلاثية ما يوضح ذلك
تتألف هذه الرواية من ثلاثة أجزاء ((الدار الكبيرة)) و((الحريق)) و((النول))، وسندرس كلاً من هذه الروايات في شيء من التفصيل.
ولابد من أن نشير، في مستهل الكلام عن هذه الثلاثية، إلى أن الإيقاع المكاني هو السمة الطاغية المسيطرة عليها، بينما نجد أن الإيقاع الزماني هو الذي يطبع ثلاثية نجيب محفوظ بطابعه، ومن هذه النقطة يتحدد جانب من جوانب الاختلافات الكبيرة بين الثلاثيتين.
تقوم لحمة الرواية على دراسة عنصرين اختارهما الروائي ليصور قطاعاً كبيراً من الواقع أولهما الصبي عمر وثانيهما الدار الكبيرة (دار سبيطار)، ومن تفاعل هذين العنصرين يتيح لنا الكاتب أن نتعرف لا على الصبي عمر ولا على الدار التي يعيش فيها هو وذووه وحسب بل على المدينة كلها ومن ثم على الواقع العربي ومن ثم على الواقع العربي في الجزائر، أما المدينة التي تضم دار سبيطار فهي مدينة تلمسان ـ المدينة التي ولد يفها محمد ديب وقضى ثمة فترة من حياته ـ وأما الأحداث فتجري كلها في الفترة التي سبقت اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية.
قد لا تعدو الحقيقة إذا قلنا أن ثلاثية محمد ديب هي رواية الطفولة، كما أن ثلاثية نجيب محفوظ هي رواية الرجولة، ولكنها طفولة معذبة بائسة فقيرة، وآية ذلك أن الشخصية الأساسية في الثلاثية هي شخصية الصبي عمر الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، ومن خلال عينيه ومشاعره يطلعنا المؤلف على العالم الذي يحيط به، ومن خلال انفعالاته وأحاسيسه نتعاطف مع هذا العالم أو ننقم منه أو نثور عليه. لقد رسم الروائي هذه الشخصية في كثير من الحرارة والرقة فصور عفويتها وعواطفها وتفتحها على العالم ببراعة قلما نجد لها نظيراً في الروايات الكلاسيكية الكبرى (ديكنز وغوروكي مثلاً)، إنه يقدم لنا بطله هذا في المدرسة وفي الصف وفي الشارع وفي أسرته، ومنذ اللمسات الأولى نشعر بإلحاح الروائي على تصوير الفقر، وصراع الأطفال على قطع الخبز بل على الفتات منه من جهة، وعلى تضليل المستعمر لأطفال الجزائر من جهة ثانية، ويتجلى هذا في برامج التعليم وتدريس الطلاب ما لا علاقة له ببيئتهم وفرض النموذج الفرنسي للحياة عليهم، وقد صور الروائي ذلك تصويراً حاداً في درس ((الوطن)) مثلاً.
ولا تلبث الرؤية أن تنتقل إلى الدار موضوع الرواية. ويصف محمد ديب هذه الدار وصفاً يحيط بها فيقول:
((تشبه دار سبيطار أن تكون بلدة. رحابها الواسعة جداً تجعل من المتعذر على المرء أن يقول ما عدد السكان الذين تؤويهم على وجه الدقة، حين شق قلب المدينة، وأقيمت شوارع حديثة، حجبت العمارات الجديدة وراءها تلك المباني القديمة المبعثرة التي بلغت من تراصها أنها تؤلف قلباً واحداً: المدينة القديمة، ودار سبيطار الواقعة بين طرق ضيقة صغيرة ملتوية كأغصان النبات المتعرش...1))
وفي هذه الدار ذات الغرف الكثيرة التي تذكر بالدور القديمة المنتشرة في شتى البلدان العربية، تقيم أسر عديدة،تعيش كلها في الفقر والبؤس والحرمان والجوع، ومن بين هذه الأسر هناك أسرة الصبي التي يدرسها الروائي على أنها نموذج حي لسائر الأسر، فهي تضم الأم عيني، وابنها عمر وابنتيها عيوشة ومريم، وكان على الأم الأرمل أن تعيل هؤلاء الأولاد بعد أن مات زوجها بمرض الصدر ولحق به ابنه البكر جلالي بعد سنتين، مصاباً بالمرض نفسه، لذا فهي تعمل ليلاً نهاراً، ولا تكاد تؤمن للأسرة ما تقتات به من الخبز وحده، ومن الطبيعي بعد أن نراها برمة بحياتها متذمرة منها، وماذا عسى أن تفعل إذا ما أضيف إلى أسرتها فم جديد؟ ومن هنا كان حلول إنسان وافد على الأسرة كارثة ستكلفها من أمرها عنتاً وستضيف فما جديداً يجب إطعامه ولو كان أقرب المقربين إليها، وهكذا نفهم ثورة الأم عيني وضيقها حين حمل لها أخوها أمه المريضة ((لقد تسلموها أمس، آواها ابنها ثلاثة أشهر، وجاء الآن دور عيني لتعيلها ثلاثة أشهر أخرى، إلا أن الجميع تخلوا عنها فبقيت مع أفراد الأسرة رغماً عن عيني)). وفي هذا نلمح واحدة من الصورة العديدة التي صورها الروائي للفقر في الجزائر.
وهناك في تلك الدار حيث يعيش عمر، أسر أخرى كثيرة مشابهة لأسرته، ومن الطبيعي أن تنشأ بين هاتيك الأسر ضروب من المودة والخصومة والصداقة والعداوة، ويتيح لنا الكاتب أن نستمع إلى طرف من أحاديث الجارات إذ يتبادلن الشكوى، وإذ يتبادلن الشتائم بسبب الحر والضيق وضنك العيش وبؤس الحياة. وقد صور الروائي ذلك على نحو مفصل واقعي حين عرض المشادة التي قامت بين مالكة الدار وعيني، وما دار فيها من شتائم وسباب، كما صور الأطفال الكثر الذين تعج بهم الدار تصويراً معبراً حياً.
وتضم هذه الدار فيمن تضم مناضلاً سيظهر غير مرة في الرواية وفي الجزء الثاني منها بخاصة هو حميد سراج، وقد أثر هذا المناضل في شخصية الصبي عمر وفي تفتح وعيه ولاسيما بعد أن تسلل ذات يوم فحضر أحد الاجتماعات فرآه يحرض الناس على الثورة ويشرح لهم وضعهم البائي وسبب بؤسهم ويصرخ فيهم قائلاً: يجب أن نتخلص من هذا البؤس! وإن اليوم الذي جاء فيه رجال الشرطة يبحثون عنه في الدار كان يوماً مشهوداً أثار الفزع والاضطراب. فهذه الدار، في الواقع، لم تكن تستطيع أن تعيش في معزل عن العالم المحيط بها، والفترة التي يصور فيها محمد ديب هذه الدار، والجزائر معها، هي فترة إرهاص بالثورة، وكان من الطبيعي أن تشهد المدن الاجتماعات والاعتقالات، فثمة وضع فاسد وهو يهدد بالانفجار.
ولهذا فباستطاعتنا أن نعتبر هذه الدار التي أحاط بها الروائي وصفاً ودراسة، صورة لبقية الديار المشابهة لها، بل نستطيع أن نعتبرها صورة للجزائر كلها بواقعها وتطلعاتها، إن هذه الدار أشبه شيء بسجن: ((كان عمر قد انتهى إلى تشبيه دار سبيطار بسجن...)) وكانت الجزائر كلها سجناً كبيراً يعيش فيه الناس ويضطربون ويعانون الحياة القاسية الأليمة دون أن يملكوا لهذا الواقع البائس تغييراً أو يستطيعوا منه إفلاتا. يقول محمد ديب: ((كان أهله، وجميع أولئك الذين يضطربون حوله إلى غير نهاية، يذعنون فيما يظهر لهذا المعتقل. إنهم يحاولون أن يضيقوا حياتهم وأن ينزلوا بها إلى مستوى الحياة في زنزانة من سجن. صحيح أن كل واحد من هؤلاء الناس كان له في أعلى السقف من زنزانته كوة صغيرة ينزل عليه منها نور ضعيف. ولكن ما من أحد كان يخطر بباله أن يتساءل من أين يأتي النور. هل كان ينبغي لأحد أن يرفع عينيه إلى أعلى؟ هل كان يتسع وقت أحد لأن يرفع عينيه إلى أعلى؟ هل كان يتسع وقت أحد لأن يرفع عينيه إلى أعلى؟ مستحيل! كانوا جميعاً ينتقلون من عناء إلى عناء وأنوفهم في التراب، وما ينفكون يتحركون كأنهم النحل في ذهابه وإيابه بلا انقطاع. غير أن بعضهم وهم أناس مجانين إذا نظرت إلى الأمر من جميع وجوهه، كانوا يقفزون إلى تلك الكوة، لا يدري أحد لماذا، فيتشبثون بقضبانها الحديدية التي تحول بين أحد وبين الخروج منها، وينظرون إلى السماء الزرقاء صارخين: ماذا؟
((كانت دار سبيطار تعيش حياة طائشة عمياء، حياة طائشة عمياء، حياة يهزها الحنق والغضب والخوف في كل لحظة، كل كلمة تقال في هذه الدار فهي شتيمة أو نداء أو اعتراف. وكان أهل الدار يحتملون ما يحدث فيها من اضطرابات في مذلة.
إن الحجارة في هذه الدار تعيش أكثر من القلوب..2))
في هذه الدار نشأ عمر، وفيها تفتحت شخصيته، وما أكثر ما تعرض لشتائم أمه، وقسوتها عليه، وفي هذه الدار لاحظ كيف يعيش الناس، وساعد أمه فرافقها إلى صاحب العمل الذي كان يجني الربح من عملها، ليحسب لها أجرها خشية أن يغشها، ورافقها لابتياع بعض ما تحتاج إليه الأسرة، ولقد رضي بالجوع والحرمان مكرهاً، وعضه الفقر والعوز بأنياب حادة: (( إيه أيتها الأم الحبيبة، أيها الجوع لك مني أرق الكلمات.. كم مرة ركع على قدمي الجوع في المساء وقد غرقت نفسه وعيناه في تحية واسعة، بينما الجوع يبتسم له ويبتسم.. ويقترب منه، ويغمره بوجوده السمح الرحيم، ثم إذا بنوم يقظ يرتق في عينيه، فينام والجوع يهدهده بحركات خفيفة، خفيفة جداً3)).
ويعمل عمر أخيراً عند الحلاق في الصيف، كما تعمل أختاه في مصنع السجاد، ويخيل إليهما أن دخلهما القليل المحدود هذا سيتيح للأسرة أن تأكل بعض اللحم، ولك كل دخل الأفراد مجتمعين لا يتيح لهم أن يأكلوا غير الكفاف.
إن مقدرة محمد ديب الروائية تتجلى في تصوير تكون شخصية الصبي عمر، بطل هذه الرواية، وتعرفه على العالم وسط هذا الجو الذي نشأ فيه، فهو يحاول أن يفهم، ويسعى إلى أن يعرف سبب ذلك الشقاء كله، كما يصور الروائي تفتح نفسية عمر في فترة المراهقة على الحب متجلياً في علاقته بزهور إحدى بنات الجيران ممن يقيمون في دار سبيطار.
ولم يطل الأمر بعمر كي تتجلى نقمته وتظهر رغبته في التخلص من هذا الواقع ورفضه، ورفض آراء الجيل القديم ممن رضوا بهذا الواقع واعتبروه قدراً لا سبيل إلى تغييره. وهكذا يبدأ عمر بالنقمة على هذا العالم ورفضه:
((إن غريزة حاقدة عنيدة صافية، دائمة اليقظة، كانت تدفعه إلى التمرد على كل شيء.. إن عمر يكره هذا العالم ويكره كل ما يرتبط به، ويمت إليه بصلة.)) ويحلل محمد ديب المشاعر والأفكار التي تطوف في ذهن عمر، وهي تدور كلها حول معرفة سبب الواقع الذي يحيط به، والبؤس الذي يعيش فيه. ((كان يريد أن يعرف لماذا يأكل ناس، ولا يأكل ناس آخرون؟)).
لقد استطاع الروائي دون تكلف أن يبرز أهم ملامح المجتمع الذي يدرسه فعرض واقعه المتخلف والعلل التي يشكو منها، ولابد من التوقف ههنا عند أقسى هذه الملامح الواقعية التي عرضها الكاتب، ولعل أولها وأهمها موضوع الجوع والفقر، وما أكثر ما تعرضت الرواية لوصفهما، والروائي في ذلك يعتمد طريقة اللوحات المستمدة من الواقع المباشر دون تعليق أو تفسير، بل يترك للمشهد الملتقط أن يفصح عما يستطيع أن يفصح عنه. فهو يقدم لنا مثلاً صورة للأسرة، موضوع روايته، التي طالما أرقها الجوع: (( كان الحر الشديد الذي يصاحبه الجوع دائماً، يؤرق لياليهم، غير أن الجوع أشد رهبة من الحر. إنه ماثل لهم دائماً. وكان هذا الجوع في جسم عمر أشبه بشعلة خفيفة لا تدرك، تولد له نوع من النشوة. لقد خف لحمه فجأة وأسرف في الخفة، وضعف وأسرف في الضعف فصار لا يسمح له أن ينغمس في كثافة الليل، حيث النوم دم وشهوات4....))
ويصور محمد ديب في لوحة أخرى الجهود التي يبذلها أفراد الأسرة في التغلب على الجوع ومحاولة خداعه وإسكاته، بنبرة لا تخلو من كآبة وقتامة يقول: ((إنهم في سائر النهار أقل جهامة. حتى إذا اقتربت ساعة الطعام، عاودهم شاغلهم الوحيد، فانقطعت مريم وانقطع عمر عن اللعب، وارتسمت في وجوههم معاني الغضب.
كانت عيني، فيما مضى من زمان، تستطيع أن تهدئهم بحيلة ماكرة: كانوا أيامئذ صغاراً.
كان يكفي أن يكون عندها قليل من فحم، عند المساء، حتى تملأ الحلة ماء، وتدع الماء يغلي على النار، وتطلب إلى أولادها الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن يهدؤوا قليلاً.
إنها تقول لهم من حين إلى حين:
ـ اصبروا قليلاً.
فكان الأولاد يزفرون زفرات إذعان. وكل الوقت ينقضي.
ـ سيكون الطعام جاهزاً بعد لحظة.
وفيما هي تقول لهم ذلك، يغلبهم على أمرهم نعاس لا حيلة لهم في دفعه، فيطبق أجفانهم بثقل كأنه ثقل الرصاص، وكانوا ينامون... ثم يغرقون في سبات عميق.. إن صبرهم لا يمكن أن يدوم مدة طويلة.. نعم كانت الحلة لا تحوي إلا ماء يغلي5)).
ومن هنا نستطيع أن نتخيل مدى الفرح الذي يشعر به هؤلاء الفقراء المحرومون الجياع إذا ما جاءتهم هدية ما، والهدية غالباً ما تكون سلة من الطعام. إن رؤية الطعام كفيل بأن يذهب بلبهم. فقد حضر ابن خالة عيني إلى الدار الكبيرة لزيارة قريبته فيها، ولما لم يجدها ترك لها سلة من الخضار والفواكه هدية، فجن جنون الأسرة:
"كانت عيوشة ترقص، إنها تركض من أول الغرفة إلى آخرها، ملوحة بيديها، منادية أمها بعبارات رقيقة، ثم دارت حول نفسها على قدم واحدة، وظلت ترقص.
"فلما ألفت أعينهم عتمة الغرفة، رأوا مريم جالسة قرب سلة من الخيزران في مثل حجمها، وقد أدخلت ذراعها في عروة السلة كما يمسك المرء بذراع صديق. إن هذه السلة ذات الكرش الضخمة تبدو مترعة. لم تر عيني في حياتها سلالاً كهذه السلة.
"البنتان تدوران وهما تغنيان، وتتجولان في الغرفة ذهاباً وإياباً: بطاطس، خرشوف... لحم... لقد ذهبت السعادة بعقليهما6".
وهناك إلى جانب الجوع والفقر، المرض الذي يودي بحياة الناس، ويضاعف من بؤس أسرهم، وهذا ما حدث لوالد عمر الذي كان نجاراً مشهوراً فأودى مرض الصدر به وبأحد أبنائه. وهنالك الجهل والعمل المضني، واستثمار أصحاب العمل للعمال والعاملات، وثمة البطالة تسيطر على غالبية الأفراد فتدفعهم إلى الفقر والعوز والجوع. يقول محمد ديب: "لم يكن بالمدينة عمل كثير. الفعلة وعمال النول وصناع البوابيج يسجلون في قوائم العاطلين. ولكن لا يتقاضى منهم شيئاً بطبيعة الحال إلا أولئك الذين يذهبون إلى ورش العاطلين التي تنشأ لتعمل بضعة شهور، والمسجلون يقبلون في هذه الورش أسبوعين أو ثلاثة ثم يفسحون المجال لغيرهم. والقوائم طويلة، وكثيرون ينتظرون دورهم.
والناس جميعاً جياع.
إن عمال النول ينقطعون عن أي عمل خلال الأسابيع الأخيرة من الربيع، وخلال الصيف كله، أي خلال نصف السنة تقريباً. لا عمل لهم طوال هذه المدة. وكذلك صناع البوابيج. ذلك أن هؤلاء جميعاً إنما ينتجون لسكان القرى. وسكان القرى لا يشترون إلا حين يفرغون من الحصاد. وهكذا فإن أصحاب الحرف من أهل المدينة يقضون نصف السنة في محاولة تسجيل أسمائهم في ورش العاطلين7..."
إلا أن الرواية لا تكتفي بتصوير الواقع بل تسعى إلى معرفة سبب هذا الواقع الفاسد، من خلال رؤية البطل الصغير ومشاعره وأحاسيسه، ومحاولته التفسير والفهم، ومن خلال صرخات شخوص الرواية واحتجاجهم ونقمتهم وتساؤلاتهم الأليمة الملحة، وهذا ما يعطي الرواية بعداً فكرياً أصيلاً. فعمر يعرف الفقراء الذين يحيطون به ويعي الفقر إلا أنه يريد أن يعرف سبب هذا الفقر: "ولكن لماذا نحن فقراء؟ لا أم عمر ولا النساء الأخريات كانت تجيب عن هذا السؤال. كان بعضهم يقول أحياناً: هذه قسمتنا، أو: الله أعلم. ولكن هل هذا إيضاح؟ كان عمر لا يفهم كيف يكتفي أحد بمثل هذه التفسيرات. لا، أن تفسيراً كهذا التفسير لا يوضح شيئاً، هل كان الأشخاص الكبار يعرفون الجواب الحق؟ هل كانوا يريدون أن يحتفظوا بهذا الجواب مخبأ في صدورهم؟".
وإلى جانب هؤلاء الفقراء الكثر الذين لا يستطيع أحد أن يحصيهم، هناك الأغنياء، وتظهر الصورتان في ذهن الصبي متعارضتين متعاكستين.
"وهناك أغنياء: أولئك يستطيعون أن يأكلوا، وبيننا وبينهم حاجز.. حاجز عال عريض كسور من الأسوار... ويتساءل عمرك كيف السبيل إذاً إلى رفع هذا السور أو تحطيمه، وهاهو يكاد يتلمس الطريق؟..
"وما من أحد يثور ويتمرد. لماذا؟ الأمر غير مفهوم... ومع ذلك فما أبسط هذا التمرد؟..
ويصرخ عمر في أعماقه قائلاً:
ـ لماذا لا يتمردون؟ لماذا لا يثورون؟ أهم خائفون؟ ممَ هم خائفون؟8.
لقد كان للخطابات التي ألقاها حميد سراج في جموع الناس واستمع عمر إلى بعض منها أثر في نفسه، وهاهي ذي الحقيقة تبزغ في نفسه. لقد أدرك بحسه السليم صميم المشكلة، وعرف أين يكمن الحل الجذري الصحيح. إنها الثورة وليس ثمة من سبيل آخر.
كذلك تتجلى الطريقة الواقعية التي لجأ إليها محمد ديب في أقسى صورها وأعنف أشكالها، حين صور الجدة المريضة التي حملت إلى الدار وألقى بها في بيت ابنتها، ففي هذه اللوحة من الحدة والقتامة ما يذكرنا بكبار الروائيين الطبيعيين. يصف محمد ديب هذه الجدة المهملة المرمية في المطبخ جائعة متألمة، وقد اعتبرتها ابنتها عبئاً عليها، وبرمت بها بسبب الفقر وقلة ذات اليد. فهي لا توليها أية عناية، وهي تتمنى موتها وتصامم عن صرخاتها، حتى كان يوم تفسخ فيها جسمها وانتشرت منه روائح النتن فاجتذبت إليه الكلاب، وحين كشفت عيني الغطاء عنه وجدت الديدان تنهش اللحم الحي9. ويبلغ فن محمد ديب الواقعي ذروته في قدرته على التقاط اللمحات والتفصيلات اليومية من حياة الناس الفقراء في دار سبيطار، ولعل من أبلغ اللوحات التي قدمها في هذا المجال وأصدقها وأدقها تلك اللوحة التي صور فيها الأطفال الصغار الذين يملؤون الدار بحركتهم وضجيجهم وصياحهم. يقول في ذلك: "أن الرجال يخرجون بكرة، فما يرون في البيت إلا نادراً، ولا يبقى في المنزل إلا النساء. إن الفناء الذي نغطيه أغصان الدالية المتشابكة يغص بهن، إنهن يملأنه بذهابهن وإيابهن ويزحمن المدخل.
أما في المطبخ فإنهن ما ينقطعن عن الثرثرة حول البئر إلى غير نهاية. وإذا كانت كل غرفة من الغرف تؤوي ضوضاء الأطفال طوال الليل، فإنها تعيد هؤلاء الأطفال سيرتهم الأولى متى طلع النهار، سيلاً من الفوضى لا يوصف سواء في أعلى أو في أسفل. إنهم يتعاقبون واحداً وراء واحد كأنهم القرود وقد إلتمعت وجوههم بالمخاط. والذين لا يقدرون منهم على المشي بعد، يزحفون على الأرض وقد ارتفعت آليتهم في الهواء. إنهم جميعاً يبكون أو يزعقون. فلا الأمهات ولا غيرهن من النساء يرين أن من المفيد أن يلتفتن إلى هذا كله. إن الصراخ الذي يفجره الجوع أو تفجره العصبية لا ينقطع سيله، وفي وسط هذا الصراخ ترتفع في بعض الأحيان صيحات حزن ويأس. وكان كل هؤلاء الأطفال يهربون إلى الشارع"10.
ولابد من الإشارة هنا إلى إحساس محمد ديب بالطبيعة إحساساً شعرياً وقدرته على تصويرها. فلقد أبدى مهارة كبيرة في وصف مظاهرها وتأثيرها على أبطال الرواية. فهو يقول مثلاً، في اطلالة الربيع على مدينة تلمسان وعلى دار سبيطار: "ووصل الربيع ببطء، فاطلع أولى الأوراق النحيلة الراعشة في شجرة الكرمة التي كانت أغصانها المتشابكة تكلل فناء البيت. وإلى دار سبيطار نفسها تسللت عذوبة حادة خفية بين الجدران القديمة الرمادية، ومضت تعتصم بقلوب السكان. إن الناس في دار سبيطار لم يدركوا حقيقتها فوراً. ولكنه الربيع. كانت أول الأمر شيئاً يسيراً، ثم تعاظمت حتى لكأنها مقدار رائع من الخبز11".
وتبلغ مهارته في تحسس مظاهر الطبيعة في تصويره الصيف، الصيف الحار اللاهب الذي يمنع سكان الدار من النوم ليلاً ويجعلهم يتقبلون على جنوبهم كأنهم على الحجر، أما في النهار فإنهم يحاولون التغلب على شدة الحر بسكب الماء على أرض الغرف والحجرات:
"الأطفال يسكبون قواديس الماء على البلاط، فما يكاد الماء ينتشر حتى يتبخر موجة حارة. لقد استحالت الغرفة إلى فرن يقبعون فيه بائسين. إنها قاسية هذه القسوة العمياء التي تغرقهم، فما يفرغون من مغالبتها12...".
تلك هي الملامح الأساسية لهذا الجزء الأول من الثلاثية، ولسوف تتضح وتتعمق هذه الملامح في الجزأين: التالين منها.
ـ 2ـ
تشكل رواية الحريق الجزء الثاني من هذه الثلاثية، والرواية هذه تبدأ زمنياً من حيث تنتهي رواية "الدار الكبيرة" أي مع نشوب الحرب العالمية: الثانية، فنحن في سيف 1929، وإذا كانت الحرب وآثارها لم تظهر بجلاء في الجزء الأول من الرواية، فإنا سنرى طلائع تأثيرها في رواية الحريق.
تمتد هذه الرواية، كما هي الحال بالنسبة إلى الرواية السابقة، شهوراً معدودات، هي شهور الصيف الطويل وبعض الأشهر التي معه، ولهذا فإن فسحتها الزمانية محدودة كما كانت الفسحة الزمانية محدودة أيضاً في الجزء الأول من الثلاثية، إلا أن المكان مختلف هنا، وإذا كان محمد ديب قد عرض في رواية الدار الكبيرة واقع أبناء المدينة خلال حياة أسرة في دار واسعة من دور مدينة تلمسان فإنه ينقلنا، في هذه الرواية، إلى الريف ليدرس وضعه والحياة فيه دراسة دقيقة حية. وهكذا سيتاح له أن يطلعنا على جانب بائس آخر من حياة الجزائر، بل لعل بؤس الريف وفقر الفلاحين يبدوان أشد قسوة وأكثر حلكة.
إن تصوير المكان يستأثر باهتمام الكاتب أول ما يستأثره، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل حين قلنا أن الإيقاع المكاني أضفى على ثلاثية محمد ديب من الإيقاع الزماني، فهو ينقلنا إلى أعماق الريف، إلى منطقة منعزلة في "بنى بوبلان" الأعى. وتبدو هذه المنطقة الجبلية "نائية عن العالم، رغم أن المسافة التي تفصلها عن تلمسان لا تزيد على ثلاثة كيلومترات." ويرسم الروائي صورة موجزة جداً، ولكنها شديدة الأسر للفلاحين في مستهل روايته فيقول: "إن حياتهم تنقضي أيام زراعة ورعي لدى المستوطنين الفرنسيين، وهي حياة تبلغ من طابع القدم، ويبلغ أصحابها من بساطة العيش درجة تحسبهم معها آتين من قارة منسية. إن الأرض هناك في الأعلى صعبة المراس لا ماء فيها، قاحلة تختنق ظمأ. ولا تكاد سكة المحراث القديم أن تحزها13.."
ولكن كيف أتيح للكاتب أن يصل إلى هذه المنطقة ويطلعنا على ما فيها؟ إن الرابط الذي يربط بين الروايتين هو شخصية عمر بطل الرواية الأولى. لقد كانت شخصية هذا الفتى تهيمن على جو الرواية الأولى، ومن خلاله أطلعنا على العالم الذي صوره محمد ديب، وهاهو ذا في الرواية الثانية، ينتقل إلى هذه المنطقة يقضي فيها فصل الصيف مع جارته (زهور) الفتاة التي فجرت ينبوع المراهقة في نفسه الفتية، في الرواية الأولى كما في الرواية الثانية. لقد اصطبحته هذه معها لقضاء فصل الصيف في منزل أختها (ماما) المتزوجة في نبي بوبلان من مزارع يدعى (قره علي). وقد عاش الفتى شهور الصيف كلها هناك، وأتيح له، كما أتيح لنا من خلاله، أن نتعرف الريف، ومن الطبيعي أن تظهر إلى جانبه شخصيات كثيرة جديدة من الفلاحين هي التي تظهر إلى جانبه شخصيات كثيرة جديدة من الفلاحين هي التي كذلك أن تختفي هذه الشخصية لتفسح المجال لتلك الشخصيات التي طفت عليها في كثير من الأحيان، ولعل أهمها علي بن رباح، وبادعدوش، وقره علي، وبن أيوب، ولا يبقى لعمر إلا أن يسمع ويشاهد ويعي بعض أحداث هذه المنطقة التي ليست في حقيقتها إلا صورة للريف الجزائري كله المستغل البائس.
وفي هذه المنطقة يشاهد عمر أطفالاً في مثل سنه، ولكنهم أشد منه بؤساً وأكثر تخلفاً، وفيها يتعرف على شخصية متميزة هي شخصية "الكومندور" الإنسان الذي بترت ساقاه في الحرب والذي بلا الحياة وعرفها فتركت هذه المعرفة في نفسه آثاراً عميقة من الوعي والفهم والإحساس الصادق والتجربة المرة الأليمة، وما أكثر ما حدثه "الكومندور" عن نفسه وعن الواقع المحيط به وعن أحلامه ورؤاه وألمه الدفين. كما عرف عمر هناك أيضاً عدداً من المزارعين والفلاحين والعمال الزراعيين وأصحاب الأراضي من المستعمرين الفرنسيين. إنا لنشاهد في هذه المنطقة حشداً من الأشخاص يعيشون أمامنا ويضطربون، وكل منهم يمتاز بنبرة خاصة وشخصية متميزة، ولكنهم جميعاً ـ وهذه نقطة جديرة بالانتباه تميز هذه الرواية من بقية أجزاء الثلاثية ـ يجتمعون فيطيلون الاجتماعات ويتكلمون فيكثرون من الكلام ويتناقشون فيسهبون في النقاش، وكل أحاديثهم ومناقشاتهم وكلامهم إنما يدور حول الواقع الجزائري. أن ثمة في الجو لشيئاً جديداً، وأن بداية وعي جديد يتفتح في أذهان الفلاحين، هو وعيهم لواقعهم والبؤس الذي فيه يعيشون. لقد ظهر في هذه المنطقة، وفي مناطق أخرى كثيرة لاشك، من يطرح هذا السؤال الكبير الخطير "لماذا لا نعيش على هذا النحو؟" وأن مجرد طرح مثل هذا السؤال وأن عليه أن يسعى إلى تغييره بأي ثمن.
ولا تلبث هذه النقمة أن تتحول إلى عمل منظم، فقد قرر الفلاحون ذات يوم أن يقوموا بإضراب، ويشكل هذا الإضراب محور الرواية في اعتقادنا. فقد تحول التذمر والشكوى شيئاً بعد شيء إلى عمل مثمر، وهاهو حميد سراج المناضل الثائر الذي رأيناه في الرواية الأولى مطارداً يفتش رجال الشرطة بيته، ويخطب في اجتماعات الناس، يعود إلى الظهور مرة ثانية في هذه الرواية، ليشد أزر الفلاحين، ويوجه مناقشاتهم ويفتح أعينهم على طرق الخلاص وسبل التحرر. ومن الطبيعي أن يعزو الحكام وأنصارهم من المزارعين إلى حميد سراج التحريض على الإضراب ومسؤولية ما قام به الفلاحون، وينتهي الأمر بالسلطات إلى أن توعز بالقبض عليه وسجنه وتعذيبه، ويصف محمد ديب ذلك كله في صفحات بلغت حداً رفيعاً من الروعة والبيان والقدرة الفنية14.
لقد كان هذا الإضراب إرهاصاً بالثورة ونتيجة لبؤس طويل مستديم، فهو حصيلة العمل الشاق الذي لا يفضي إلا إلى الفقر المدقع. وفي أثناء الاستجوابات كانت الشرطة تلح في السؤال لمعرفة المحرضين على الإضراب فكان الفلاحون يجيبون بقولهم: "المسؤول عن الإضراب هو البؤس الذي نحن فيه". ويعرض الروائي بعض نماذج من هذا البؤس الذي انتهى إلى الإضراب الشامل فيقول: "صاح علي بن رباح في ختام المناقشات: منذ خمسة عشر يوماً ولم نر قطرة من الزيت في بيتنا. إني مدين للبقال وليس معي ما أدفعه له. إننا نموت شيئاً فشيئاً. إننا نطالب بحق الحياة لنا ولأطفالنا". ويقول آخر مخاطباً إخوانه المصريين: "إنا من دوار (عشبة) ولكنني عملت دائماً هنا، وأنا وزوجتي لم يتركنا الجوع في يوم من الأيام. فلو آخذتموني إلى دكان بائع من باعة الطعام لأكلت كل ما عنده. إن أطفالي يموتون جوعاً. لذلك أقول: امضوا في الإضراب إلى النهاية. لقد بلغنا غية البؤس فما الذي نخشاه؟ بالأمس القريب جاءني بيان الضرائب، فإذا هم قد سجلوا علي ثماني مواعز، ولم يكن عندي منها إلا اثنتان، والآن لا أملك إلا ماعزة واحدة. هذا هو الوضع15".
ويتابع محمد ديب عرض هذه النماذج من البؤس فيتحدث عن بادعدوش الفلاح الذي منعه المستعمر من العمل لأنه هرم فيقول:
"واقترب بادعدوش بدوره. إن بادعدوش كان قد عمل في مزرعة فيار، ثم رد بعد ذلك من كوخه:
ـ رموا بنا إلى الخارج أنا وزوجتي وأولادي ومالنا من أمتعة. إن ابنتي الكبرى ريم التي كانت تسير في عامها السادس عشر، كانت تعمل خادمة في منزل مسيو فيار لقاء إطعامها فحسب. ولقد ظلت تعمل في منزلهم ست سنين، ثم مرضت فما كان من مسيو فيار إلا أن طردها، غير مكتف بأنه أرهقها بالعمل، وماتت بعد قليل، وسألني هل عندي ابنة أخرى أقدمها إليه. أما أنا فقد رفض أن يعهد إلي بأي عمل. قائلاً أنني قد هرمت".
غير أن هذا الإضراب الذي جاء نتيجة حتمية لواقع الأمور كان أمراً عجيباً مفاجئاً بالنسبة إلى المستعمر الفرنسي. فهو للمرة الأولى يشهد هذا التمرد، وللمرة الأولى يجبهه الفلاحون الحفاة العراة بالرفض. وإن الحياة التي ألفها طويلاً قد حدث اليوم ما يعكر صفوها. وعبثاً سعى المستعمرون إلى إغراء الفلاحين فحاولوا استمالتهم بالوعد والوعيد إلا أنهم رفضوا شتى أنواع الإغراءات وأبدوا تضامناً وصعوداً غريبين.
وكان الحريق في ذات ليلة.
لقد أضرمت النار في أكواخ الفلاحين الذين يعملون في المزارع الفرنسية انتقاماً وبطشاً، فأحرقتها وشردت أصحابها. إلا أن هذا الحريق الذي أريد له أن يكود ردعاً وزجراً وقضاء على التمرد لم يكن إلا بداية لنار أكبر منه هي نار الثورة.
"لقد شب حريق، ولن ينطفئ هذا الحريق في يوم من الأيام. سيظل هذا الحريق يزحف في عماية، خفياً مستترا، ولن ينقطع لهيبه الدامي إلا بعد أن يفرق البلاد كلها بلالائه16".
ويعود عمر آخر الصيف إلى بلدته وإلى الدار الكبيرة، لتجابهه المشكلة القديمة، مشكلة الخبز. لقد انتهت العطلة "وأنبأ عمر أمه بأن العودة إلى المدرسة قريبة. إنه في حاجة إلى ملابس نظيفة وإلى كتب... إن مطلباً من هذا النوع هو دائماً تمهيداً لمشاجرة بينه وبين عيني.
وتدور الفصول الأخيرة من الرواية في مدينة تلسمان. إن بؤس الأسرة آخذ في الازدياد، فلم يعد لدى الأم عمل، والأسرة تعيش في ضيق وضنك. ويخطر للأم أن تهرب بعض الأقمشة من مراكش إلا أنه تصطدم بالحرب فقد أصبح الانتقال من بلد إلى آخر يحتاج إلى ترخيص ولم تستطع الأم أن تحل الأزمة التي تعيش فيها الأسرة.
ويمضي عمر يجوب الطرقات بلا هدف، ويفاجأ إذ يطلب إليه أحد الفرنسيين أن يحمل له سلة ملأها بالخضار والفواكه، ويتاح لعمر أن يرى ابن المستعمر الفرنسي ويرى الفرق الكبير بينهما. تلك كان المرة الأولى التي يعمل فيها ويجابه الحياة. وسيتاح لنا أن نتابع مصير عمر وعمله في الجزء الأخير من الثلاثية، في رواية "النول".
يهدف هذا الجزء الثاني من الثلاثية فيما يهدف إلى تصوير الواقع الجزائري في الريف وإلى استغلال المستعمر للفلاحين استغلالاً بشعاً. ولكنه يحاول، في الوقت نفسه، أن يصور تفتح بشائر الوعي في نفوس الفلاحين، وعن هذا الوعي الحاد الصادق المتألم ستنبثق ثورتهم الكبرى.
أما هذا الواقع فيمتاز بالفقر والفاقة والحرمان "فالفلاحون كثيراً ما تلم بهم المجاعة"، وقد عهد محمد ديب، وفق طريقته، إلى تقديم لوحات شتى تمثل جوانب من هذه الحياة الفقيرة التي يعيشها الناس في الريف، عرضة للعوز والحاجة والرضى بالقليل الذي لا يدفع الجوع، فهو يقدم لنا الأطفال الفقراء في بعض تلك اللوحات فيقول:
"لقد التقى عمر هنالك بأطفال أشقى منه، أطفال كأنهم الجراد من فرط هزالهم ونحولهم. إن ملابسهم لا تعدو أن تكون خرقاً مربوطة بحبال من الألفا. وربما ركضوا حفاة بغير شيء من الأقدام أكثر الأحيان17". ويضيف الروائي محللاً نفسية أولئك الأطفال "كان أطفال هذا العالم الحزين مبكرين في نموهم مثل عمر، أن إدراكهم للشقاء يلمع في أعينهم مثلما يلمع في عيني عمر". وما أكثر ما صور الروائي العذاب والعناء اللذين يملآن هذه المنطقة القاسية وعرض مشاهد عدة من تعب الإنسان وشقائه. يقول مثلاً في صدد حديثه عن إحدى النساء: "أخذ عمر ينظر في عينيها الغائرتين، وقسماتها النحيلة. كانت الرحى تطحن قوى هذه المرأة كما تطحن الحبوب التي تدرس فيها... وخارت قواها أخيراً فاستلقت على الأرض18...".
لاشك في أن الجو الذي يسيطر على الرواية قاتم، فهذا الوضع الإنساني الذي يعيش فيه الناس هناك يكاد يجرد الإنسان من إنسانيته، ولهذا فإنا نرى الناس وجمين دائماً، حزانى في كل حين، تخلو حياتهم من الفرح، ويشعرون أنهم في سجن، وإذا كان محمد ديب قد عرض هذه الفكرة في الجزء الأول من الثلاثية فإنه يعود هنا ليوسعها: "إن الحقول والقرية والمدينة، وحتى السجن، إن كل ذلك سواء".
أما الناحية الثانية التي عني الروائي بإبرازها فهي تصوير الواقع الاستعماري في الجزائر، صحيح أن هذا الاستعمار قديم، ولكن الجديد في الموضوع أن الفلاحين قد بدؤوا يعون واقعهم وسبب تخلفهم وفقرهم، وهكذا بدا التذمر، والحديث عن الواقع، والشكوى منه، ومناقشة الحال التي فيها يعيشون. يقول أحد الفلاحين: "ذلك أنهم يعيشون على ظهورنا كالقمل، هذا هو السبب، إن كان خبزنا أسود، إن كانت حياتنا سوداء، فإليهم يرجع السبب في سواد خبزنا وسواد حياتنا جميعاً، ولكن هذا القمل في رأسه أفكار عظيمة19...".
ومرد هذا الفقر كله إلى الاستغلال، ولقد أسهب الروائي إسهاباً كبيراً في تصوير هذا الاستغلال، وليس غريباً أن تنبعث صرخات من بعض الفلاحين كهذه الصرخة: "آه... ليت واحد فقط يعرف كيف يقص على الناس قصة الحياة الحزينة الشقية التي يعيشها الفلاحون، إلا ما أكثر ما يستطيع عندئذ أن يقوله. وليته بعد أن ينتهي من الكلام عن الفلاحون المساكين، يتحدث عن حياة الأبهة التي يعيشها المستوطنون الفرنسيون، ليسرى عن مستمعيه ويروح عنهم20".
كذلك عرض الروائي امتصاص المستعمر لخيرات الأرض واستئثاره بها، والضرائب التي فرضها على الفلاحين، وإذا كان العمل يحرر الإنسان ويجعله سيد نفسه وسيد الأرض حوله، فإن العمل ههنا يتحول إلى لعنة تطارد الفلاح حيثما عمل، وأنى ذهب، والمستعمر ما يفتأ يقتطع لنفسه الأراضي: "كان هناك غول شره لا تراه الأعين ما ينفك يبتلع بين فكيه الفاغرين أشلاء كبيرة من هذه الأرض التي سقوها بعرقهم وبدمائهم". وليس يستطيع أي منهم أن يطالب بحقه فهناك "القانون" الذي وضعه المستعمر، وباسمهم سطا على الأراضي وباسمه صادر الأملاك "ولكن كيف نلجأ إلى القانون والقانون هو الذي يجردنا من أملاكنا؟21 ".
والروائي بعد ذلك بارع في تصوير مظاهر الحياة اليومية والمشاهد الشعبية والعادات الاجتماعية، ومرد براعته، في رأينا، إلى أنه عايش هذه المشاهد ولمسها بيده، فكل اللوحات التي رسمها للواقع تنضج بالحرارة والصدق والدقة. وإذا كنا قد لمسنا، في الجزء الأول، إحساسه بالطبيعة وشعوره بها، فإن هذا الإحساس يطبع رواية الحريق بطابعه، ويعود فيظهر على نحو أوضح وأجمل.
ويتجلى ذلك في حديث الروائي عن الأرض وجمالها والبساتين والمياه، ويسهب الروائي في الحديث عن الصيف وشمسه اللاهبة وضيائه الشديد كما يتحدث عن شتاء مدينة تلمسان التي عاد إليها عمر بعد انقضاء عطلة الصيف، حديثاً يعكس ما في الشتاء من قسوة وقر شديدين.
أما الشتاء في الجبال فقد استطاع محمد ديب بقدرته الكبيرة على الوصف أن ينقله نقلاً حياً عنيفاً مشوباً بالصخب والألم كأنه لحن موسيقي صاخب عنيف: "وانطلقت الرياح، أنها في عثوها وهذيانها تهز الجبال، أسقطت الرياح أواخر أوراق الأشجار، وعصفت ثمار البلوط المتراكمة على الأرض فأخذت تخشخش. إن منطقة بني بوبلان تطقطق كأنها خشب يابس. رياح كانون الثاني ما تنفك تجفف رطوبة الأعماق، وأصبحت الأرض خفيفة ذات مسام. يهبط الليل فينام الناس مغمورين بهذا الجو.. حتى إذا استيقظوا في الصباح تشوقوا إلى هطول المطر، ولكنهم ما يلبثون أن يحسوا حتى قبل أن يلقوا نظرة على الخارج، بذلك الخدر الذي تولده الشمس الساطعة. ويظنون أنهم يسمعون صوت رذاذ المطر يتساقط على الأرض دقيقاً، وصوت سيلان الماء على أحجار أقنية البيوت، ولكنهم ما يلبثون أن يعرفوا أنها الأرض تطقطق من التشقق، وأنا الريح تجري في الحقول الخربة22...".
ولابد من أن يشعر القارئ أخيراً، بإيمان الروائي العميق بالإنسان بوقوفه إلى جانب المستضعفين المستغلين، وبإدانة المستعمر ومن يقف إلى جانبه صغار الملاكين، وبإشادته بقدرة الإنسان على الصبر والصمود وإيمانه بغد أفضل، إليه يسعى، ونحوه يتجه، مهما تكاثفت حوله قوى الشر والظلم ومهما كانت أدوات كفاحه يسيرة ضعيفة، كما يشيد بالأرض وتعلق الفلاحين بها وإيمانهم بضرورة الحفاظ عليها ولو تعرضوا لاستغلال المستغلين وبطشهم. يقول بن أيوب في هذا المعنى:
"في كل يوم ينتزعون قطعة من لحم أجسادنا، فما يبقى في مكان اللحم المنتزع إلا جرح عميق تنزف منه حياتنا. إنهم يميتوننا ببطء، يفصدوننا عرقاً عرقا. أيها الجيران، لأن تموتوا خير من أن تتنازلوا عن أراضيكم، لأن تموتوا خير من أن تتركوا شبراً من هذه الأراضي، إذا تركتم أرضكم تركتكم فعشتم أنتم وأبناؤكم بؤساء إلى آخر الحياة23".
تلكم هي أبرز الخصائص التي يتسم بها الجزء الثاني من الثلاثية، وسيعمد محمد ديب إلى إبراز جوانب أخرى جديدة من الحياة في الجزائر وذلك في رواية "النول".
ـ 3 ـ
نصل في نهاية المطاف إلى الجزء الثالث والأخير من هذه الثلاثية موضوع دراستنا. ولئن كنا قد رأينا صورة عن حياة الأسر الفقيرة البائسة وعشنا معها من خلال شخصية الفتى عمر في رواية "الدار الكبيرة" ثم انتقلنا مع البطل نفسه، في رواية "الحريق" إلى الريف فاطلعنا على الواقع البائس واستغلال المستعمرين وأصحاب الأراضي للفلاحين، إن رواية "النول" تعود بنا، مع البطل، إلى المدينة، مدينة تلمسان لتصور لنا قطاعاً آخر هو قطاع العمال وترسم لنا واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وما يدور في ضمائرهم، محاولة بذلك إتمام الصورة العامة للجزائر إبان الاستعمار الفرنسي، وفي فترة الحرب العالمية الثانية على وجه الدقة. وتكون الثلاثية بذلك قد صورت الواقع العربي في الجزائر في شتى جوانبه ومختلف طبقاته، مع إلحاح خاص على الطبقات الشعبية الفقيرة المستغلة، من فلاحين وعمال.
في هذه الرواية يعود بنا المؤلف إذا إلى تلمسان، وإلى الدار الكبيرة نفسها التي كانت موضوع الجزء الأول، إلا أنه لا يتوقف عندها إلا لحظات فصارا، فما من شيء قد جد في حياة الدار، وما من شيء في بؤس أسرة البطل أو أسر جيرانه قد تغير، فأختاه ما تزالان تعملان في المصنع، وأمه تزداد شقاء على شقاء فلا يتاح لها أن تدبر معاش الأسرة إلا بشق النفس، "والمرأة الوحيدة يدب إليها الهرم قبل غيرها".كما قالت إحدى النسوة، وما أشد ما ينطبق هذا القول على الأم المعذبة عيني. وليس غريباً أن نسمعها تصرخ في بؤسها ووحدتها وشقائها هذه الصرخة التي تعبر عن آلام جموع من الناس غفيرة: "على هذه الأرض اللعينة ولدنا كما يولد العار، وأكلنا كما نأكل الحثالات، وتركنا كما يترك المنبوذون، حتى خبزنا أسود كسواد هذا الليل الذي يلفتا بظلامه.24أما فتاته (زهور) التي فرض عليها الزواج فرضاً، فقد عادت في هذه الرواية التي أسرتها في الدار الكبيرة. لقد أخفق زواجها وتركت زوجها بعد ما قاست ما قاست "لقد علم عمر بهذه التفاصيل من أحاديث أختيه، أما زهور فكان يلمحها من بعيد، لحظات فصارا، وقد ارتدت ثوبها المصنوع من حرير بلون الورد، وعلقت بأذنيها قرطين من ذهب، لشد ما تغيرت25....".
وهكذا انقطعت الأسباب التي تربط عمر بهذه الفتاة بعد أن تزوجت وعادت إلى بيتها مطرودة أو ربما مطلقة.
فإذا ما انتقلنا إلى هيكل الرواية وجدنا محمد ديب يقيم بنية رواية النول على حدثين أساسيين: أولهما عمل عمر في معمل للنسيج، وهذا ما أعطى الرواية عنوانها. والثاني ظهور جموع غفيرة من المتسولين اجتاحوا المدينة وشكل ظهورهم ظاهرة غريبة، ومن تضافر هذين الحدثين ينقل إلينا الواقع الحي في أرض الجزائر.
لقد ترك عمر المدرسة إلى الأبد، وأمضى شهور الصيف في (بني بوبلان) وها هو ذا الآن في تلمسان وقد بلغ الخامسة عشرة من عمره ولابد له من أن يعمل، وكان على أمه عيني أن تسعى لإيجاد عمل له. ولهذا فقد قصدت منزل (ماحي بوعنان) والتمست منه أن يساعد ابنها اليتيم، فأمرها أن ترسله إلى معمله، وبين دخول عمر المعمل في أول الرواية وخروجه منه في آخرها مطروداً إثر مشاجرة دامية مع (حمدوش) أحد العمال، يبسط الروائي أمامنا صورة واسعة عن حياة العمال وبؤسهم وسلوكهم، ويعرض نماذج عديدة منهم، وشخصيات متمايزة متباينة متخاصمة تعكس بمجملها الحياة في الجزائر، وما يعتمل في أعماقها من اتجاهات فكرية وما تنطوي عليه من بؤس واستغلال ورؤى وأهداف ومشاعر ونقمة ورغبة في الثورة والتحرر. ولقد وفق الروائي في اختيار جو المعامل لتصوير الواقع في هذه الفترة بشكل خاص، ذلك بأن الصناعة قد نشطت في هذه الآونة بسبب الحرب نشاطاً كبيراً، واستقطبت المعامل كثيراً من العمال، وأن دراسة وضع العمال ليشخص الواقع في الجزائر خير تشخيص. يقول محمد ديب: ((.. على أن المشهد المشجع المنعش إنما كان مشهد المعامل، إن هذه المعامل كانت منذ زمن غير بعيد تعمل في تثاقل. من ذا الذي لا يتذكر؟ تشهد على ذلك تلك الأسحار التي كانت فيها عيني تقف في سوق الغزل مع كثيرات غيرها، وهي تنتظر في ملل، عسى أن نجد زبوناً يشتري منها غزلها، ولكن ما أن أخذت صفارات الإنذار تولول، حتى ألمت بالمعامل حمى مسعورة. فما من حي، وما من مكان، بل ما من ضاحية إلا اهتزت بنشاط الحائكين، فحيثما تذهب يستقبلك اصطفاق أمشاط، أو اصطخاب مكاكين، النوال تلتهم الغزل وتسأل هل من مزيد، فلا شيء يشبع جوعها الشديد المجنون إلى هذا العلف الوافر: الصوف.
إن المدينة القديمة التي كانت مدينة أصحاب حرف، تضحي الآن بغفوها العتيق وتستحيل إلى ما يشبه مدينة صناعية، ومنذ انطلق هذا اللهب، عدل الحائكون من تلقاء أنفسهم عن تعسفهم القديم، فهم الآن ينتزعون من أيدي البائعات أي صوف مهما يكن شأنه.
وتكاثرت المناسج والمعامل تكاثراً مباغتاً، بينما كانت تسافر إلى فرنسا بغير توقف سجاجيد وأغطية26..))
ونعرف عمر في واحد من هذه المعامل التي عمل فيها، إلى عدد كبير من العمال، فاحتك بهم وشاطرهم حياتهم اليومية، واستطعنا نحن أن نتابع ذلك كله معه. كان هذا المعمل يضم عدداً من العمال بينهم الفتى اليافع والشيخ الطاعن في السن، المستسلم المسكين والهائج الثائر، الخاضع لمصيره ووضعه الحياتي والمتمرد عليه، الواعي لبؤسه وأسباب بؤسه والغافي الغافل عن الخيوط التي تحرك حياته وتتلاعب به، ووراء ذلك كله هناك الفتى عمر الذي يسمع أحاديث العمال ويعيها ويحاول أن يعرف ويدرك بعض ما يعرفون ويدركون، ويعاني كثيراً مما يعانون. ذلك بأن الروائي يعرض في هذه الرواية، بأسلوبه الواقعي الذي عرفناه في الروايتين السابقتين، وبدقة بالغة، جو المعمل، فيحدثنا عن تصرفات العمال وسلوكهم وما يدور بينهم من أحاديث ومناقشات تتعلق بحياتهم الخاصة والحياة العامة في الجزائر، ونحن نستمع إلى تعليقاتهم ونكاتهم وشكواهم وتذمرهم، ونشاهد المشاجرات التي تجري بينهم والسباب والشتائم والكلمات الماجنة التي تدور ألسنتهم بها، فهذا الاحتكاك الدائم يقرب بينهم كما يثير فيهم الخصام العنيف، وتطل شخصية المعلم (ماجي بوعنان) صاحب المعمل بين حين وآخر مسيطرة مهيمنة على المعمل، وهو إذ يزور المعمل بين الفينة والفينة يصمت العمال فجأة ويتوقف المتخاصمون عن الخصام ويكب كل على عمله وأنه لعمل مرهق شاق، يقول محمد ديب في وصف ذلك: ".. العمال يدفعون المكاكيك ويخبطون الأمشاط، وقد تجهمت وجوههم وصمتوا لا ينبسون بكلمة، والضربات تدوي معاً كأنها عدة مداق تهوي في آن واحد، وقد بلغت من السرعة والأحكام أنها لا تكاد ترى في هذه الضوء الضعيف الساقط من عين النافذة العالية الصغيرة. ومن حين إلى حين ينتصب أحد الحائكين ليجفف وجهه الغارق في العرق27..." أما هؤلاء العمال فكثر، نذكر منهم زبيش وشول وقوطي الأمين وعكاشة وحمدوش، ولقد عني الروائي بدراسة كل من هذه الشخصيات دراسة واضحة أبرزت أهم معالمها وأظهرت ما تتميز به من سواها.
كان زبيش أول شخص أتيح لعمر أن يتعرف إليه حين دخل المعمل، وأن يصطدم به، وأن يجابه حياة المعمل والعمل الشاق من خلاله. فقد كان هذا رئيس الصبية في المعمل، يملي عليهم أوامره فيذعنون له، ولقد أراد منذ الوهلة الأولى أن يعجم عود عمر، وثبت عمر للتحدي وأثبت أنه قادر على حماية نفسه والدفاع عنها، ومنذئذ اتصلت أسباب عمر بأسباب زبيش إلى أن قضى مرض التيفوس على هذا الأخير. وإلى جانب زبيش هناك شول رئيس العمال ووكيل صاحب المعمل.. أن مصالح شول مرتبطة بمصالح صاحب المعمل، ومن هنا جاء دفاعه الدائم عنه وصراعه مع العمال من أجله، ولهذا نسمعه يتحدث عن ضرورة قيام العمال بعملهم وأداء الواجب بأمانة، فهو لا يفتأ يردد هذا القول: "إذا حل الخير أصاب الجميع، وإنما ينبغي للإنسان أن يؤدي عمله في أمانة".
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى الدفاع عن الاستعمار الذي ارتبط به صاحب المعمل متمثلاً في عدد من المستوطنين والضباط، وتوطدت أركان الصداقة بينه وبين هؤلاء، فشول معجب بالاستعمار، يتمنى بناءه ودوامه، ويشيد به ويرى فيه الخير كل الخير، يقول مثلاً: "أني لأتساءل ما الذي كان يمكن أن نصير إليه لولا أن عصا السلطة الفرنسية تهتز فوق رؤوسنا. إني لألقي على نفسي هذا السؤال حقاً، لولا هذه العصا لأكل بعضنا بعضاً، ما في ذلك ريب28.." وليس من تفسير لهذا الموقف إلا أن شول قد ارتبطت مصالحه الفردية بمصلحة صاحب المعمل، وأن له مصلحة في بقاء الأمور على ما هي عليه.
أما قوطي الأمين فإنسان يتصف بالصلاح والتقى والمثابرة على الصلاة، وهو مثال الإنسان الراضي بمصيره المستسلم له، لا يخطر بباله أن يثور عليه أو يغيره، بل أن لا يجد سبيلاً للتفاهم مع رفقائه الذين تغلي في نفوسهم مشاعر النقمة والتمرد والثورة، وهو يؤمن بأن الناس متساوون أمام بارئهم أما في الحياة الدنيا فلا...
بيد أن وعي العمال لواقعهم ومحاولتهم التمرد على هذا الواقع، وتمزقهم ورفضهم لمصيرهم إنما يتجلى من خلال شخصيات ثلاث تتفاوت في ملامحها وطريقة تفكيرها ووعيها وسلوكها، إلا أنها في مجملها شخصيات متمردة يرتفع صوتها مدوياً بين حين وآخر. تلكم الشخصيات هي عكاشة وحمدوش وحمزة، ولقد صحبها الفتى عمر ونشأت بينه وبينها صداقة وصلة وصحبها في المعمل والمقهى والشارع، وأصغى إليها إصغاء طويلا ًووعي ما قالته، وخلفت في نفسه أثراً عميقاً.
ففي شخصية حمزة نلمس المتمرد كما نلمس وعيه لوضعه الإنساني المهدد بالدمار بسبب الفاقة وقسوة الظروف ولا سيما الاستغلال، لهذا نسمعه يقول: "ما نعرفه عن الحياة هو أننا لسنا بشراً كسائر البشر. إن نفوسنا كهذا الكهف الذي نعيش فيه. الناس في أعلى أحرار، ونحن هنا عبيد. ما زيادة قرش على أجر اليوم بالهدف الذي يمكن أن يحفل به عبداً29".
فإذا علمنا أنه يعتبر حالة العامل هي مقياس رفاهية الشعب وكرامة الأمة أدركنا مدى الألم الذي يعيش فيه. ولهذا فإن هؤلاء الناس الذين فقدوا كل شيء، عليهم، في رأيه، أن يطالبوا بكل شيء، وهو يدعو، من أجل تحقيق ذلك، إلى ثورة كبرى، ثورة حقيقية يسترد فيها الناس إنسانيتهم: "لقد وصلنا الدرك الأسفل، فلن تجدينا الطرق العادية من أجل أن نعود فنصبح بشراً، لابد لنا في سبيل ذلك من أن نقلب العالم رأساً على عقب، وربما كان علينا أن نروعه30..." إن حديث المفكرين الاقتصاديين عن الاستلاب يتجسد حيا في شخصية هذا العامل الذي وعي وضعه الإنساني وأدرك حقيقة الواقع الاستعماري المحدق به ومدى تهديمه للنفس الإنسانية.
وإلى جانب حمزة تطالعنا الرواية بشخصية أخرى مزقها الواقع الاستعماري وحطم بنيتها النفسية وانسجامها تلك هي شخصية حمدوش، العامل المضطرب الناقم الممزق المحطم الذي لا يعرف كيف سيكون الخلاص: "ما أنا إلا أقذار تداس بالأقدام، ما الذي أسعى إليه في هذا العالم؟ إلى أين أنا ذاهب؟ لقد فسد قلبي؟31 ويضيف قوله: "لست أتورع عن شيء، لست أتورع عن بيع العالم كله ببصلة، كما يقال..." وليس غريباً أن نجد في هذا الإنسان بدور شخصية إرهابية. "يجب أن نكون رهيبين لا بمظهرنا فحسب، بل بطبعنا أيضاً. يجب أن نكون رهيبين وبمستوى بعد ذلك أن نغلب أو أن نغلب32." وليس غريباً أن يفرغ نقمته في العمال إخوانه في الشقاء، وهذا ما يفسر في رأينا صدامه بمعظم العمال، ولاسيما بعمر الذي كانت مشاجرته معه سبباً في فصله وطرده من المعمل. وشقاءه هذا العامل ليس شقاء جديداً، أنه شقاء تاريخي، فقد ورثه عن أبيه الذي عمل في المعمل طويلاً، وأكل كثيراً من تراب الصوف فلم يلبث أن مات، كل ذلك إنما حدث لكي يجني صاحب المعمل الأرباح. وفي الواقع فمن الذي يستفيد من هذا النشاط الذي دب في المعامل؟ ومن ازدياد الطلب على المنسوجات تلك؟ "يا معلم، إذا استمر هذا الجور، فأنت الذي ستجمع الذهب33".
أما أقوى شخصيات الرواية وأشد ظهوراً وتأثيراً في عمر فهو عكاشة. إنه أكثر العمال وعياً وأوسعهم قلباً، وأعمقهم إدراكاً للواقع المحيط بهم، لقد دافع عن عمر وحماه، واتخذ منه صديقاً يبثه أفكاره وآراءه وآلامه وبصحبه في تجواله وجلوسه في المقهى. وينتهي به اليأس إلى السفر، أهو بأس أم عجز عن تحمل الواقع ومعاناة الفقر؟! فهو منذ تعرف عليه عمر يفكر بالسفر ويعد العدة له. ولعل أهم ما يميز شخصية عكاشة إيمانه بالشعب وإشادته به وحبه إياه حتى لنسمعه يقول: "الشعب ملكوت الله.. الشعب روح العالم". وهو يشعر بمسؤوليته عن الوضع البشري الذي يعيش فيه هذا الشعب، وهذا ما يضاعف ألمه، أن ألمه ليس ألماً شخصياً وحسب بل إنه يعاني آلام الشعب كله ولكنه، إلى ذلك واثق من أن هذا الشعب سوف يتحرر ويغير وضعه: "لقد أهين شعبنا كثيراً... وسيخرج من ذلك أمر رهيب هائل34" وآنذاك فإن هذا الصراع الذي نراه بين الناس سيتحول ويتبدل، وبهذا يفسر عكاشة تمزق الإنسان الذي تلح الرواية على إبرازه، يقولك "الإنسان الذي لا سلطة له على القوى التي تستحقه لا سلطان له على نفسه. ولكن إذا جاء اليوم الذي يحطم فيه كل شيء، تبدل الأمر35"...
وليست هذه الشخصيات الثلاث إلا نموذجاً لشخصيات أخرى تعيش وتعمل في هذا المصنع حيث تدور أحداث الرواية، فإلى جانبها تطالعنا شخصيات أخرى لم يطل الروائي الوقوف عندها كشخصيتي عباس صباغ ومصطفى رزاق، العاملين البائسين الواعيين المتمردين.
ولابد أن نشير ههنا إلى محور ثان يشكل إيقاعاً ثابتاً في هذه الرواية إلى جانب تصوير جو المعمل ودراسة وضع العمال وواقعهم، ونعني به ظهور جماعة غفيرة من المستولين الذين انحدروا من الجبال فملؤوا طرقات تلمسان وساحاتها حتى غصت بهم المدينة، ولم تجد كل محاولات السلطة في إبعادهم وطردهم، ويدرس الروائي واقع هؤلاء البائس وكيف يعيشون في فاقة وضنك وحرمان عرضة لسخط الساخطين وبرم المتبرمين، يجود عليهم الناس بين حين وآخر بالقليل القليل مما بين أيديهم، وتفتك بهم الأمراض ويتعرف أطفالهم للموت. يقول محمد ديب: "وفي هذه الأثناء إنما أصبح الناس يلتقون بأولئك الأشخاص الذين يشبهون أن يكونوا أشباحاً مخيفة. إن هذا الجمهور من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال يجتاح جميع الأحياء شيئاً بعد شيء.. كذلك انتشروا هذا الانتشار المحروم من الحياة حرماناً غريباً، انتشروا في تردد، وفي عياء وكلال.
.. وأصبح الناس يلتقون بجموع متزايدة منهم، في الطرق المسدودة، وتحت الأفاريز وحول المتاريس، وأما الحمامات العامة، وعلى سلالم السوق المسقوفة وقدام أروقة الخانات. كانت شخوصهم المتفككة، السمراء، الوسخة، تتسكع في جميع الشوارع. إنهم يجرون أنفسهم في كل مكان. وكان بعضهم يحمل على الظهور بعضاً آخر، أصبح عاجزاً عن مواصلة السير. حتى إذا قطعوا بهم يضع خطوات جلسوا على الأرصفة لاهثين. كانت المخازن لا تضم في واجهاتها إلا أشياء لا فائدة لهم منها. ومع ذلك، فهنالك إنما كانوا يستقرون وينطفئون انطفاء الشعل الشاحبة..
.. وكان بعضهم يظل نائماً بغير انقطاع، متلففاً كالقنفذ، فإذا أراد أحد أن يحسن إليه كان لابد له أن يميل عليه ليدس له الفرش في راحة يده. إن هؤلاء المتسولين الجدد لا يسمع أحد أصواتهم. من هذه الناحية، طرأ إذن شيء من تبدل. أتراهم كانوا يجيئون من الضواحي المحرومة الفقيرة؟
ربما... ربما كانوا يجمعون بضعة دريهمات، أو بعض قشامات الطعام، من مجرد ارتياد المدينة.
.. وسرعان ما أصبح أي حاجز من الحواجز عاجزاً عن صد هذه الإندفاعة القوية التي تقود هؤلاء القوم إلى أكثر الأحياء حشمة، وإلى الشوارع التجارية، والأجزاء الراقية من المدينة36...
ولا يلبث الناس أن يدركوا أن وجود هؤلاء المتسولين الفقراء الذين ضاقت بهم الأرض إنما مرده إلى الاستعمار، فإذا كان العمال يحيون حياة بائسة تفتقر إلى العدالة، وإذا كان هناك متسولون مشردون فإن التهام المستعمر لخيرات البلاد هو الذي جعل الناس يصيرون إلى هذا الوضع. يقول أحد أبطال الرواية:
= هؤلاء ليسوا حشرات. إن الحشرات التي انقضت على بلادنا هي التي صيرت أخوتنا إلى هذه الحال.
بهذا الجزء من الثلاثية تتضح، كما رأينا، رؤية الواقع وتتعمق ويظهر منظور الروائي الاجتماعي وأسلوبه الواعي على نحو عميق حاد. ذلك بأن محمد ديب قد ألح، في هذا الجزء من الثلاثية، إلحاحاً كبيراً على تصوير قسوة العمل واستغلال العمال، وأثر الوجود الاستعماري على نفوس الناس. وأن ما درسه وشرحه فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" عن حالة الإنسان المستعمر والأمراض العصبية التي يصاب بها، والتمزق الذي يعانيه، والصراع الباطني والخارجي الذي يتعرض له قد بسطه محمد ديب ههنا بأسلوب روائي فني إذ جسده في أشخاص ودرس ارتباط هؤلاء الأشخاص بعضهم ببعض فأثبت بذلك مقدرة عميقة على فهم الواقع ورصده ونقله.
وإلى جانب ذلك فإن عناية محمد ديب بالتفصيلات الصغيرة من حياة الناس التي طالعنا بها في الروايتين السابقتين ما تزال تميز أسلوبه وفنه في هذه الرواية. نجد ذلك مثلاً في تصوير توزيع الفحم بسبب ضائقة الحرب وتوزيع الدقيق، والإعتقالات وغير ذلك من صور الحياة اليومية التي تعكس دقائق حياة الناس الفقراء ومعاشهم. ولم ينس قط شعوره بالطبيعة وإحساسه بها، وإذا كان في الجزأين السابقين قد صور الصيف والشتاء فإنه، في هذه الرواية، يعبر عن إحساسه بالربيع، الربيع في مدينة تلمسان ذاتها. يقول في ذلك: "ولد الربيع في ليلة. انبثق انبثاقاً مفاجئاًُ: سيول من الضياء تتدفق بعد ذلك الظلام الطويل. المدينة تفتح رئتيها وقد تخلصت من الثقل الذي كان جاثماً على صدرها. أوراق الأشجار عادت تنبت الأغصان السود التي غشيتها رغوة خضراء. والنهار استرد دفئه الجميل37".
نخلص من ذلك كله إلى القول أن محمد ديب قد رسم بثلاثيته هذه صورة متكاملة للحياة في الجزائر في شتى جوانبها وللناس في مختلف طبقاتهم وللطبيعة في تقلب فصولها. فبرهن على قدرة روائية كبيرة بطموحه الروائي الكبير هذا. كما برهن عن رؤية صادقة دقيقة للواقع وتفسير عميق لهذا الواقع، وإدانة للمستعمر الذي عات فيه فساداً. فكانت روايته بأجزائها الثلاثة صرخة احتجاج على الاستعمار والبؤس الإنساني ورفضاً للظلم وإيماناً عميقاً بالإنسان.