تحضير مادة اللغة عربية - الادب الجزائري الجزء 01 - مسابقة اساتذة الابتدائي 2016
الحلقة الأولى : الشعر الجزائري في القرن 19
-1-1 الوضع الثقافي والاجتماعي
ليس من الشك في أن سنة ( 1830 م) هي نقطة تحول كبرى في تاريخ الجزائر الحديثة،
فقد كان حادث احتلال الجيش الفرنسي لمدينة الجزائر صدمة عنيفة هزت نفوس
الجزائريين الأحرار من الأعماق، بل هزت نفوس المغاربيين جميعا حيث وجد لهذاالاحتلال صدى في الشعر التونسي وشعر المغرب الأقصى يومئذ فضلا عما كتبه أدباء
الجزائر وشعراؤها أمثال : حمدان بن عثمان خوجة، ومحمد بن الشاهد، وقدور بنرويلة، والأمير عبد القادر وآخرون، فظهر في كتابات هؤلاء جميعا الشعور القوميالوطني التحرري ربما لأول مرة في تاريخ الثقافة الجزائرية طافحا بالآلام ومرارة
الهزيمة أما جيش الغزاة الذي كسح البلاد وأذل الرقاب وأتى على كل شيء جميل ونفيسفاغتصبه ودمر الباقي كما امتدت يده الآثمة إلى المقدسات فاعتدى على المساجد والقبور،
حتى صار المواطن ابن الجزائر الحرة يتمنى الموت قبل أن يشاهد مثل هذه الهزيمة كما
عبر الشاعر ابن الشاهد في حينه :
أموت وما تدري البواكي بقصتي
وكيف يطيب العيش والأنس في الكفر
فيا عين جودي بالدموع سماحة
ويا حزن شيد في الفؤاد ولا تسر
-----------------------------1---------------------------
هكذا، إذن كان الإحتلال الفرنسي لبلادنا نقطة انطلاق في التاريخ الأدب الجزائري
الحديث، كما كان بمثابة الصدمة المولدة للهمة من عدة أوجه منها ما يتصل بميلاد هذاالشعور الوطني القومي والكيان الجزائري المتميز جغرافيا وحضاريا ظاهرا في تلك
الهبة العظيمة حين تسارع الألوف من أبناء الجزائر الاصلاء للإنخراط في صفوف
جيش الأمير عبد القادر وتنظيمات المقاومة الأخرى المنتفضة في كل نواحي بلادنا،
والتي لم تهدأ ثوراتها إلا بنهاية حرب التحرير الكبرى عام ( 1962 )م).
يضاف إلى ذلك عامل الدولة الجزائرية الحديثة التي شرع الأمير عبد القادر في إرساءقواعدها العصرية على أسس القومية الجزائرية ومفهوم الوطنية بحدود الجزائر
المعروفة واعتماده على أبناء وطنه فقط في حربه للجيش الاستعماري، وكان الأميررجل دولة وقائدا محاربا من الطراز الأول وشاعرا وكاتبا رقيق حواشي الكلام ذواقاللأدب الرفيع، فاستقطب في عهده عددا من الكتاب والأدباء والشعراء والخطباء كما
تشهد بذلك رسائله الكثيرة في كتاب يحي بوعزيز " تاريخ الجزائر من خلال الوثائق "
ويشهد به كتاب وزيره للداخلية قدور بن رويلة بعنوان " وشاح الكتائب وزينة الجيش
المحمدي الغالب" ذلك العنوان الجذاب الذي أطلقه الأمير اسما لجيشه الذي يريده أن
يكون بصبغة جهادية إسلامية مقدسة كما كان جيش النبي محمد (ص)
وكان قدور بن رويلة هذا أديبا ذواقا جيد النثر والشعر بمقاييس عصره، وكان الأمير
شاعرا متمكنا، وعده بعضهم مجددا في روحه ومضمونه عل الأقل،
ومما يشهد بمكانة الأمير الأدبية الرفيعة كتابة في التصوف " المواقف في التصوف "
وكتابة الأخر : " المقراض الحاد" ، أما من يطلع على كتاب السيرة الذاتية للأمير عبد
القادر الذي ألفه ابنه محمد بن عبد القادر بعنوان " تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير
عبد القادر" فسيجد فيه جملة من النصوص الأدبية الجزائرية شعرا ونثرا لشعراء وكتاب
معاصرين للأمير في الوطن أو في المنفى تشهد كلها بالتنوع في أساليب الكتابة الفنية
وتعدد الأغراض، وبعضها لا يبعد أن يكون في الطليعة من أدب ذلك العصر، ولعل بعض
شعر الأمير عبد القادر نفسه يعد في هذه المنزلة إذا قيس بحالة الخمول والجمود السائدة
على كل الأدب العربي في ذلك الزمان.
--------------------2------------------
وفي هذه الحقبة من تاريخ الجزائر الحديث إلى نهاية القرن ( 19 م) لا نستطيع أن نتحدثعن عوامل حضارية أجنبية أثرت حقيقة في نهضة الأدب الجزائري يومئذ باستثناء آلة
الدمار والموت الممثلة في جيش الغزو الفرنسي و أسلحته المستعملة في تقتيل الجزائريين
مما أثر سلبا في نفوس أدبائنا تجاه ثقافة الغرب الصليبي عموما، فلا شيء من مرافقالعلم والحضارة والتنوير الذي يشع في أوربا قد وصل إلى عقول الجزائريين أو لامس
نفوسهم بعكس ما هو مشهور على حملة نابليون على مصرعام 1798 م .
ولا نستغرب مثل هذا السلوك العدواني تجاه بلد "رياس البحر" وأبنائه المقاومين للعنصر
الصليبي إذا عرفنا أنه بمجرد أن تمكنت الجيوش الغازية من احتلال الجزائر حتى شرعتالسلطات الاستعمارية بإصدار أوامر لإبادة الشعب الجزائري بالقتل والنفي والأمراض
الفتاكة حتى يتيسر لها الحاق البلاد بالأرض الفرنسية كأحدى مقاطعاتها، فسنت قوانين
" الأندجينا"، الجائرة التي لا تعترف بآدمية الإنسان الجزائري، بل تنزلة منزلة الحيوان،
وتعدة جنسا من أجناسه، فأباحت شعب الجزائر وما يملكه ليكون ضمن ممتلكات الغزاة "
(ينظر سعد الله ، الحركة الوطنية).
لذلك نشأ في نفس كل جزائري حر الضمير عالما كان أم أديبا ام فردا من الناس هذا
النفور المتأصر من كل ماهو ينتمي إلى دولة " الرومي" الفرنسي الذي يجب الإبتعاد عنهحتى لو كان من نوع تعليم اللغة الأجنبية ومعارفها العصرية، ولم يزل هذا الأثر النفسي
إلا بعد مرور عدة أجيال، بل لعله لم ينقص أثره حتى اليوم في نفوس بعضهم. وهكذا
كانت مرافق الحياة الثقافية التي أنشأها الجيش الإستعماري في الجزائر خاصة به وبإفراد
الجالية الأوربية فقط، وفي هذا الصدد يقول الزبير سيف الإسلام في كتابة " تاريخ
الصحافة في الجزائر " : الحقيقة من خلال ما درسنا من الصحف، تبين أن حركة الكلام
1900 ) مسألة وحقا - والتعبير والصحافة والكتابة كانت طوال سبعين عاما ( 1830
.( مقتصرا على الأوربيين وخاصا بهم، فلا ينازعهم في ذلك أحد ( ج 2، ص 20
ولو نظرنا في الإحصاء الذي قدمه هذا الكاتب بأسماء الصحف الفرنسية الصادرة بأرض
الجزائر خلال القرن ( 19 م) لهالنا الأمر لكثرتها ما بين صحيفة يومية وجريدة أسبوعية
ومجلة دورية شاملة للقطر الجزائري، اومحصورة في جهة من جهاته التي يتمركز فيها
المعمرون الأوربيون " ينظر (ج 3/ من 101 إلى 157 ) و حين ندقق النظر في هذه
---------------------3--------------------
الصحافة نجدها تكتب كلها باللسان الفرنسي وتخاطب الأوربيين خاصة ما عدا القليل منها
ولا يتجاوز واحدا بالمائة يصدر بالعربية الميسرة أو الدراجة، ومنها صحيفة " المبشر"
التي تعد ثاني صحيفة تصدر في الوطن العربي بعد جريدة " الوقائع المصرية" إذ ظهرت
المبشر بالجزائر لأول مرة عام 1847 يقوم على تحريرها بعض المستعمرين الأوربيين
والمترجمين الجزائريين ، وتحمل أوامر السلطات الاستعمارية إلى الجزائريين وما يطلب
منهم تنفيذه تجاه الدولة الفرساوية الراعية.
ولا ينتظر من مثل هذه الصحيفة أن تهتم بالأدب الجزائري ولا ان ترحب بأدباء الجزائر
الأحرار، لذلك فأبواب النشر فيها مسدود إلا لمن يمدح السلطة الفرسية وأتباعها برغم
العمر المديد الذي عاشته هذه الصحيحة إذا استمر صدورها دون إقطاع الى غاية عام
)1962.(
وعلى صعيد آخر، صار المواطن بالخصوص مشغولا بهم المقاومة ورد العدوان فلم
يسعه الوقت للدرس والتحصيل وكتابة القصائد والنصوص الأدبية إلا ما كان عارضا وفي
أوقات محدودة كما في المنفي أو السجن، وإذا كتب فلا يجد المنبر الذي يرحب بنشر أثره
الأدبي إلا إذا عبر الحدود الجزائرية إلى المشرق العربي، وتلك صعوبة أخرى دونها
رقابة المستعمر وحراسه.
أما تأسيس النوادي و الجمعيات والأحزاب الوطنية والمدارس الحرة فلا يمكننا الحديث فلا
يمكننا الحديث عنه في ظل القمع العسكري الفرنسي وأعمال التدمير والتهجير والحروب
المتواصلة طيلة هذا القرن 19 م وينبغي انتظار مطلع القرن ( 20 م) لتتعدل هذه الصورة
نتيجة ظهور عوامل جديدة محليا وعالميا.
2-1 شعر المقاومة الجزائرية خلال القرن ( 19 م).
قد يكون موضوع المقاومة أهم قيمة شعرية تشد اهتمام الدارس خلال القرن ( 19 م) ليس
في الجزائر فحسب بل في العالم العربي كله، لأن القيم الفنية الأخرى للأدب العربي في
هذه الحقبة لا تكاد تذكر، إذ ظل الشعر العربي لهذا الوقت يرزح تحت اشكال التقليد
اللفظي والصنعة المفتعلة والأغراض البالية والركاكة البادية في الصياغة والتعبير،
فنهضة الأدب إذن تبدأ من النواة أي الموضوع، تلك النواة التي أخذت في تغيير شكلها
-------------------4-----------------
وفي التضخم ونمو الوعي بقضايا الإنسان العربي وتفاعله مع أحداث عصره حتى انتهت
بتحطيم شكل الشعر العربي كما نعلم في ثورة الشعر الرومانسي و الشعر الحر .
وأول شرارة في إشتعال نواة الشعر الجزائري كانت في شعر مقاومة المحتلين، هذا الشعر
الذي إستمد روحه من شعر الفروسية والحرب والتطلع الى مراقي الحياة الحرة الكريمة
واستلهام قيم البطولة والتضحية والكرامة والشهامة .......الخ.
وكان شعر الأمير عبد القادر بالذات من هذا الطراز الرفيع الذي فسح مجالا واسعا لصورالتضحية والفداء ليشهد بذلك على بديات طيبة لنهضة الشعر الجزائري منذ النصف الأول
من القرن 19 م. ولعله بذلك قد سبق الأقطار العربية، فشعر الأمير- كما نشهد به قصائد
ديوانه – يطفح بمعاني السمو وتمجيد البطولة والاعتزاز بالشخصية القومية والنخوة
العربية، فزرع في الوقت نفسه بذور الإحياء في الشعر باحتذائه نماذج من الشعر العربي
القديم لرصانتها وقوة بيانها كما في شعر عنترة وحسان بن ثابت وأبي فراس الحمداني
والمتنبي وغيرهم.
والدارس لشعر الأمير يحس بهذا التأثر بشعر الأقدمين قويا واضحا منذ حداثة سنه و
انطلاق المقاومة المسلحة ضد الغزاة الفرنسيين ، تلك المقاومة الشرسة التي كان الفتى
عبد القادر فارسها المغوار و شاعرها المخلد لبطولاتها ، فجاء شعره هذا تعبيرا صادقا
عن روح الفروسية الثائرة و تصويرا لحمية الشباب الطموح المتشبع بقيم الوطنية و
البطولة النادرة كما في قصيدته التي نظمها عقب معركة " خنق النطاح" قرب وهران عام
1832 م و تبلغ زهاء نحو 30 بيتا ، وقد افتتحها بهذا المطلع القوي
توسد بمهد الأرض ، قد مرت النوى
و زال لغوب السير من مشهد الثوا
و عر جيادا جاد بالنفس كرها
و قد اشرفت مما عراها لي التوى ع
و نعجب لتمكن الامير في هذه القصيدة من غريب اللغة و تمكنه من ناصية التعبير
الشعري و لم يتجاوز سنه حين ذاك الخامسة و العشرين ربيعا مثل ( لغوب = اعياء شديد
---------------------5------------------
، عراها = اصابها ، التوى الهلاك ) . و كذلك اتقانه اساليب المجاز مثل ( توسد مهد
الارض ، جاد بالنفس ...) .
وبعد ان يعدد الشاعر مكارم الأخلاق العربية في قصيدته و ينسبها إلى قومه يخلص إلى
تصوير شجاعته مع أفراد جيشه المجاهدين من نجل الدين و الوطن في تلك المعركة
الطاحنة و ما استعمل فيها من سلاح تقليدي كالسيوف والرماح و غيرها يقول :
الم تر في خنق النطاح نطاحنا
غداة التقينا كم شجاع لهم هوى
و كم هامة ذاك النهار قددتها
بحد حسامي ، و الق طعنة شوى نا
و اذ نقرا ما قاله الامير الشاعر في مواقف التحامه بجيش العدو و تصويره لفنون القتال
التي مارسها معهم بكثير من الحذق و المهارة يتبادر إلى أذهاننا ما قاله عنترة و غيره من
شعراء الفروسية العرب في مثل تلك المواقف الحربية .
و في غمرة تلك المعارك مع العدو الفرنسي و تراشق الضربات يعلم الأمير بما سعى إليه
بعض المرجفون العملاء عندما أشاعوا نبا وفاته بصفته قائدا للجيوش ليضعفوا من عزيمة
جيشه في بعض نواحي الوطن الجزائري و كان هذا سببا فيما كتبه عامله إليه أحمد بن
سالم خليفة الأمير على منطقة جرجرة والوسط ليعرف صدق هذه الإشاعة ويطلب المدد،
فجاء رد الأمير عبد القادر :
" إني أطلعت على مكتوبكم بأن خبر موتي قد امتد إلى الشرق، فأعلم أن الموت لا مفرمنه، ولا محيد عنه، إذ هو من قضاء الله الذي لا يرد، وإني أحمد الله إذ لم تأتي ساعتيبعد، ولم يزل عندي من قوة والإقتدار ما أؤمن به مهاجمة أعداء ديننا، فكن في راحة،
ساكن البال، صبورا ومتى إستقر الأمر لنا نتوجه إليكم "، و أرسل الأمير مع وفد إبنسالم نص القصيدة الآتية، وهي من جيد شعره وتبلغ نحو خمسين بيتا بناها الشاعر علىالنمط القديم الذي يبدأ بمقدمة في النسيب ثم الغرض، وضمنها أفضل ما قرأ من أنفاس
الشعر البطولي القديم، وقد جاء فيها على الخصوص :
أفدي أناسا، ليس يدعى غيرهم حاشا العصابة، و والطراز الأول
يكفيهم شرف وفخرا باقيا حمل اللواء الهاشمي الأطول
-----------------6----------------
قد خصهم واختصهم واختارهم رب الأنام لذا بغير تعمل
هي بالمديح أحق، لكن ضاعت حقوق بالعدا والعذل
إن غيرهم بالمال شح وما سنا جادوا ببذل النفس دون تعلل
الباذلون نفوسهم ونفسيهم في حب مالكنا العظيم الإجلل
الصادقون الصابرون لدى الوغى الخاملون لكل مالم يحمل
إن غيرهم نال الذائد مسرفا هم يبتغون قراع كتب الجحفل
وهكذا يكون الأمير الشاعر قد تشرب عدة نصوص قديمة و أدخلها في قصيدته هذه
بطريقة التناص غير العمدي، بداية بقصيده حسان بن ثابت في أولاد جفنة
لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول.
مرورا بالشعر الإسلامي في مدح الرسول (ص) كقول كعب بن مالك
الباذلين نفوسهم لنبيهم يوم الهجاج و سطوة الجبار.
واستكملها لا بشعر النقائض بين جرير و الفرزدق خاصة مثل:
إن الذي سمك السماء بنالنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أو هذا الرد عليها:
إن الذي سمك السماء بنا لنا عزا علاك فماله من منقل
فثقافة الأمير في التراث الشعري و ا لأدب العربي من الاتساع و العمق و الشمول بحيثلا يمكن أن نحيط بكل جوانبها و هو ما يجعل قصائده بؤر استقطاب لتلك النصوص و مافيها من المباني الخاصة و المعاني الدالة على علو كعبه و قوة عارضته و سمو تجربتهالفنية في الشعر متجاوزا عهد الانحطاط و الجمود في عصره عائدا بشعره إلى العصور
الزاهرة للأدب العربي و الإبداع الشعري باحتذائه تلك النماذج الرفيعة المستوى، التي لايكاد يقف عند حد استلهامه لها و استنطاقه لصور النص و بعث بطولة الأمجاد و احيائهلمواقفهم الخالدة فقد كان الأمير الفتى متساميا إلى معالي الأمور عاشقا للمكارم مفتونا
بأسباب السيادة و الريادة لا يقنع بما دون النجوم في ذلك.
و حين اضطرته ظروف الحرب إلى الغيبة المتكررة عن بيته اشتكى أهله و زوجته من
وحشة الفراق و أكثروا عليه، من اللوم و الإشفاق على حياته، فتأثرا لعتابهم تأثرا شديدا
و نظم قصيدة في الموضوع ضمنها انفعاله، بل احتجاجه أيضا من الركون الى السلامة
--------------------7-----------------
و الأمن و الاستكانة للعدو الكافر على المخاطرة بالنفس و المغامرة و الموت من أجل
الجميع .
تساؤلنى أم البنين و انها لأعلم من تحت السماء بأحوالي
ألم تعلمي ياربة انحدر إنني أجلي هموم القوم في يوم تجوالى
و أغشى مضيق الموت لا متهيبا و احمى نساء الحي في يوم تهوال
فهذه نعمة من الشعر العربي الأصيل زمن الفتوحات في تحمل الصعاب و الشدائد و قدفقدت في عصور الضعف الأدبي، و الأمير في هذه القصيدة يطمئن زوجته على حياته
ليعلن ايمانه الراسخ بأن الحياة الخرة الكريمة، حياة الفروسية الحقه هي مثله الأعلى في
وجود، الصدق ما شهد لا به الأعداء كما يقال
وعني سلي جيش الفرنسيس تعلمي بأن مناياهم بسيفي و عسالي
سلي أليل عني كم شفقت أديمه على ضامر الجنين معتدل عال
سلي البيد عني و المفاوز و الربي و سهلا وحزنا كم طويت بترحال
فصورة الفارس الذي يصبر على المكاره والجوع مدة طويلة من الزمن، ويقارع بسلاحهكتائب الأعداء ويهزمهم، ويتحمل الأذى ولا يبوح بشكواه إلى أحد، هذه الصورة مألوفةجدا في شعر عنترة العبسي وفي شعر غيره من فرسان العرب المشهورين، فالأمير عبد
القادر شأنه في شعره شأن شعراء الأحياء الكبار أما أن تتعلق نفسه بفارس من فرسانالعرب و أما بأمير شجاع، وهكذا كان الحال في شعر البارودي الذي جاء بعده و أشتهربمعارضته لفحول الشعر القديم فقد كان شعر الأمير خير معبر عن همته العالمية
وشجاعته النادرة وثقافته الواسعة في التراث. لذلك كان أهم عنصر فني في شعر الأمير
عبد القادر هو صدقه الفني ومطابقته لأحوال قائلة وأفعاله وهو من هذه الناحية يستحق أن
يحظى بدراسة مستقلة لأن الأمير عبد القادر استطاع أن يسيطر على تجربته الداخلية
و شكلا تمثيلا حسيا في شعره الأمر الذي لم يرق إليه غيره من شعراء الجزائر في ذلك
العصر.
إذا تجاوزنا شعر الأمير لنتحدث عن غيره لم نكد نجد شاعرا مرموقا ينافسه إلا من بعضالأعلام من المفتنين أو كتاب الدواوين كقدور إبن رويلة كاتب ديوان الأمير الذي وجد له
--------------------8-------------------
بعض الشعر والشيخ مصطفى بن الكبابطي مفتي الجزائر زمن وقوع الإحتلال، والشيخمحمد بن عبد الرحمن الأمين الذي أورد له الشيخ عبد الرحمان الجيلالي أبياتا قالها في
المحكمة الشرعية المالكية الملحقة بالجامع الكبير سنة 1800 أولها
أحسن بمحكمة قد راق منظرها ابت محاسنها شكرا لبارها .
وهي أبيات ستة حسنة السبك بديعة النسج رشيقة اللفظ تستلهم أبيات البحتري في وصف
بركة المتوكل.
ولعل القاضي الأديب محمد الشاذلي القسنطيني أقرب هؤلاء الفقهاء والكتاب الى فن الأدبوالشعر وأكثرهم إنتاجا شعريا، فقد أفرد له أبو القاسم سعد الله كتابا ذكر له فيه عددا من
المقطوعات الشعرية بعضها كان مساجلة بينه وبين الأمير عبد القادر حين كان في منفاه
بفرنسا، أو ما يعد ضمن غرض الإخوانيات، ومن أهم هذه المقطعات الشعرية وأجودها "
71 ] أرسلها الى - قصيدته السياسية في الأمير " إن صحت نسبتها إليه [ سعد الله ص 69
الأمير يشكو له فيها بطش الغزاة الفرنسيين بسكان قسنطينة يوم إقتحمها جيشهم 1839
يقول فيها :
وبلغ له شكوى قسنطينة بما يسوء ذوى ا حلام والله يشهد لأ
لا
ذا
وذلك أن الكفر حل بها و في عمالتها من كل أرجائها يبدو
وجل الورى راض بدولته وما درى أن رب العرش للكفر مبعد
ترى أهل دين الله حقا أذلة وذو الكفر في عز وللحق يجحد
وكيف وسيف الله بالغرب مصلت لضرب رقاب الكفر والدين ينجد
خليفة أحيا الدين من بعد موته وأخمد نار الكفر ذاك المؤيد
حمى ملة الإسلام مما يشويها بماض من العزم القوي يهند
ورأي سديد ثم علم وعفة وجود من إستجداه شك يرفد
وجيش كأمثال الجبال وفتية لدى الطعن للكفار والضرب تحمد
تراه إ ما الحرب شدت أزارها حكى ليث غاب عنه لا يتردد
وهو يختم هذه المقطوعة بقوله :
هلم لنا يا إبن الرسول فإننا بذل وخسران ، ونصرك نقصد
وبادر لقمع الكفر يا إبن نبينا عسى نفحة من عند جدك تنجد
--------------------9------------------
[71 - [ الشاذلي القسنطيني ص 69
وهي كما نرى مقطوعة مستوية النظم فصيحة العبارة صحيحة التركيب لا تكاد تتخلف
عن مستوى شعر الأحياء بالمشرق عامة.
وقد استوحى الشاعر جل صورها ومعانيها من الشعر العربي الذي قيل في المغازي
والسير وفي الحروب بين المسلمين و اعدائهم من الكفار. وعلى نحو مخصوص بما نجدهفي مرثية حسان بن ثابت التي نظمها في وفاة النبي محمد عليه السلام متأثرا أشد التأثر
بفقدانه حيث يقول في مطلعها :
بطيبة رسم للرسول ومهد منير وقد تعفو الرسوم وتمهد
هذا الاتباع لأثر الشعر القديم لدى شعرائنا في القرن ( 19 م) وإحيائهم لصوره ومعانيه
ومثله العليا في الدين والدنيا والجهاد خاصة يعد علامة بارزة في طريق الانبعاث والعودة
بهذا الإبداع الأدبي إلى زمن قوته البيانية والاستقاء من منابعة الصحيحة، لولا ذلك
الإنقطاع المفاجئ الذي أحدثه الغزاة بنفيهم للنخبة المثقفة من الجزائر، وتعطيلهم لمراكزالعلم ومصادرها بل مصادرة كل ما يخص التراث الروحي والأدبي للجزائر بنقله إلىأوربا بالجملة أو أتلافه عمدا، حتى لا يصير للجزائر هوية تاريخية أو حضارية كأنها
أرض خلاء كي يسهل إلحاقها بأوربا وإدماجها في حضارتها.
لذلك لا نكاد نجد شاعرا جزائريا واحدا بعد منتصف القرن ( 19 م ) تسعفه الموهبة
والمقدرة اللغوية على مسايرة أعمال المقاومة الشعبية و انتفاضات أحرار الجزائر التي لم
تنقطع الا بثورة التحرير الكبرى، بل وجدنا التعبير عن هذه الثورات و تخليد البطولات قد
تحول إلى شكل شعري آخر هو الشعر الملحون، الذي هو قريب جدا من العامية ولا يتقيد
بقواعد النحو لعجز في الملكة اللغوية وينبغي انتظار مطلع القرن العشريين لتحديد دماء
تلك النهضة الشعرية التي بدأها الأمير قوية واعية.
3-1 إغراض الشعر الجزائري التقليدي خلال القرن 19 م
إذا جاوزنا شعر الأمير عبد القادر النضالي الرائد في موضوعات الحرب والحماسة وإحياء البطولات لنتحدث عن شعر غيره من شعراء الجزائر في هذا القرن، فإننا لا نكادنجد شاعرا جزائريا مميزا ينافسه أو يقرب منه في طرق موضوعات الحماسة والتعبير
-----------------10----------------
عن الوجدان الوطني الملتهب وحرارة الإنفعال بالإنتماء رغم توفر الجزائر يومئذ على
أسماء عدد من الشعراء الذين ينظمون الشعر في الغالب هواية لا احترافا، وذلك لارتباطأغلبهم بوظائف معاشية أخرى مثل المشيخة والإمامة وتولى مجالس الفتيا والقضاء
والتدريس في مساجد القطر الكبرى وفي زوايا العلم والقرآن.
وبعض هؤلاء كان يقيم خارج الوطن أما لظروف النفي الطوعية والقهرية أو لظروفالتجارة والحج وغير ذلك، مثل أبناء الأمير عبد القادر لاجتناب مواقف الإذلال والبطش
الإستعماري والإهانة المتعمدة.
وقد ذكر أبو القاسم الحفناوى في كتابه " تعريف الخلف برجال السلف" السماء عدد منهؤلاء الإعلام الشعراء الكتاب من أبناء الجزائر المشهورين يومئذ، مثل محمد بن الشاهد
الذي وصفه " شاعر العصر والمصر، بمعنى شاعر الجزائر الكبير الذي بقيت له بضع
قصائد في أغراض الغزل والرثاء والتوسل بالنبي عليه السلام ومدح بعض الشياخة
وأشهرها قصيدته في رثاء مدينة الجزائر بعد تعرضت للتخريب أثر الحملة العسكرية
و الفرنسية عام ( 1830 م) وقد ناهز على المئة سنة، وتأثرا كثيرا لسقوط مدينة الجزائرالتي بكاها في شعره فشاهد يومئذ الشاعر ابن الشاهد بأم عينه دخان الحرائق وغبار
الدمار الذي غطى سماء العاصمة الجزائرية و قد لبست السواد لإقامة طقوس الحزن
والحداد.
ويقع نص القصيدة في ثمانية عشر بيتا جاء في مطلعها :
أمن صولة الأعداء سور الجزائر
سرى فيك رعب أم ركنت إلى الأسر
لبست سواد الحزن بعد مسرة
وعمت بواديك الفتون بلا حصر
وهذا الإبتداء بحرف استفهام الذي يراد منه الإستغراب وتكرار تقلب الحال على هذهالمدينة الجميلة وأهلها الآمنين يدل على هول الفاجعة، كما أن توجيه النداء الى سور
الجزائر الذي كان حصينا منيعا في عهد رياس البحر له أيحاد بعيد وتأثر في النفس.
والقصيدة بعد هذا تستفيض في وصف مظاهر الخراب والتدمير والحزن الذي يعتصر
النفوس البريئة وتعطيل حلقات العلم والدرس وباع المواطنون متاعهم بثمن بخس
----------------------11--------------------
استعداد ا للرحيل من ديار طرد منها الإسلام وحل محله الكفر، يقول
فضجت أناس ، والعقول تولهت
وباتوا على حزن الفراق بلا فكر
فباعوا نفايس المتاع ببخسها
وهاموا حيارى في الفيافي وفي البحر
وهذا أبلغ وصف لحاله الذعر التي حلت بالجزائريين أثر هذا الغزو المنكر، ونرى أن هذا
الشعر بالذات مستمد من روح قصائد الرثاء الأندلس وتسكنه نفس الصور المفجعة فيقصائد الشعراء الأندلسيين الملتهبة بعد طرد النصارى للمسلمين، ولعل شاعرنا إبن الشاهد
أحد حفدة أولائك المطرودين من الأندلس إلى شواطئ الجزائر، فأين المفر إذن.
ومن شعراء الجزائر في القرن ( 19 م) الذين شاهدوا حملة الغزو الإستدماري الشاء حسنبريهمات المنسوب إلى مدينة الجزائر، وكانت له اليد الطولي في الآداب والعلوم الدينية
3] وقد وصف بأنه " أديب الجزائر المترف وعالمها الحكيم / كما يقول الحفناوي [ ج 2
وموظفها الصالح" إشارة منه إلى توليه منصب الإفتاء على المذهب المالكي بالجامع الكبير
بالعاصمة والتدريس به. فكان يحسن إلى جانب العربية اللغة الفرنسية أيضا وله نظم رقيق
اللفظ نبيل المعنى كقوله في تقريظ كتاب : " أقوم المسالك في أحوال الممالك" الذي أهداه
إياه مؤلفه التونسي المرحوم خير الدين باشا تقديرا لعلمه، فأرسل إليه بريهمات الجزائري
بمقطوعة شعرية يقرظه بها، إذ كان " فن التقريظ " من الأغراض الشائعة، يقول :
لله خير الدين من علم أبدى منار الهدى للناس في القتن
نهجت نهجا قويما قل سالكه إلى السياسة كي ينجو من الفتن
بينت طرق السداد بل أقومها وقمت منتصرا للدين والوطن
نصيحة منك حق شكر قائلها ومنة منحت من أعظم المنن
إلى آخر الأبيات البالغة أربعة عشر بيتا تتوالى بمثل هذه السلاسة الإيقاعية، و الديباجة
المشرقة في موضوع مطروق كثيرا.
وكان موضوع رثاء العلماء و الاخلاء مما شغل بال الشعراء الجزائريين كثيرا في وقت
توالت فيه النكبات على البلاد الإسلامية. وموت العلماء والمصلحين ينبئ عند ذوي
المواهب بانطفاء مصابيح الهداية. وهكذا نجد الشيخ عبد الحكيم بن سامية الذي عزلته
--------------------12------------------
سلطات الإحتلال الفرنسي من منصبه بقضاء الجزائر ونفيه إلى مصر يتأثر كثيرا لموت
صديقة الشيخ محمد عبده الذي كان قد زار الجزائر فلزمه ابن سماية لا يفارقه، فقال فيه
هذه القصيدة التي ننقل منها قوله :
فأنت لنا شمس تنير على المدى اتى نورها من غيران نتطلعا
أدير بذكراك الذي منك قد مضى فأشرب كأسا بالصفاء مشعشعا
يذكر فيك المجد والعلم والتقى فأنظر من علياك عرشا مرفعا
و تلوي إلى تلك المجالس فكرتي فتترك قلبي بالخيال ممتعا
محافل كان العلم فيها مجالسي أسامر بدرا بالجلال مقنعا
وهو رثاء تطبعه الصور التقليدية مثل التشبيه بالشمس والبدر ويدور حول محافل العلم
والدرس الذي يشكل المثل الأعلى في العلاقة بين الأستاذ والطالب .
وفي موضوع الرثاء أيضا ما نقله أبو القاسم سعد الله في كتاب " تاريخ الجزائر الثقافي
278 عن شاعر جزائري يدعى محمد بن القايد علي الذي لم نقرأ له شعرا اخر / [جزء 8
غير هذا الرثاء] في فقيد الإصلاحيين محمد عبدة
غاض بحر العلوم أين العزاء؟ وعيون الأنام سحت دماء
فبكى المسلمون حزنا عليه وبكى الدين والتقى والحياء
وهي أبيات من قصيدة ينهج فيها الشاعر الجزائري أسلوب شعراء الرثاء المقلدين إذ يعدد
فيها مناقب محمد عبده العلمية و العقلية.
ومن تلك الأغراض الشعرية الجزائرية خلال هذا القرن ( 19 م) غرض الغزل، وموضوع
محبب القلوب ويكاد يطرقه الشعراء جميعا لما فيه .من رمزية محببة ومعان روحيةمحجبة لا تغيب عن الروح حتى في أحلك لحظات العمر، وأزمات العصر، ونمثل لهذا
الغرض بيانات لشاعر جزائري لم يذكره- في حدود علمي– غير الشيخ الفناوي في
" تعريف الخلف " وهو الشاعر الكاتب عبد الله بن محمد بن موسى البجاءئ الذي قال فيه
الحفناوى " من ا صاحبنا الذين هم في وقتنا" وهو جامع للكتابتين الأدبية والشعرية
.[62/ [ الجزء 2
ووصف الحفناوى نظمه بأنه " سلك فيه طريقة الحجازيين والنجديين ينحو فيه إلى اللطافة
وتجانب الكثافة" يقول الشاعر عبد الله بن محمد البجائى :
--------------------13-----------------
من أرض نعمان هبت نسمة السحر جاءت بنشر عبير طيب عطر
نمت بسر خزا مى الجذع واحتملت ما ضاع من نفحات البان والسمر
لله ما هيجت من وجد مكتئب وما أثارت من الأشجان والفكر
إلى آخر أبيات هذه المقطوعة البالغة أحد عشر بيتا تفيض رقة وعذوبة في ألفاظهاوموسيقاها ،فيصدق فيها أنها شبيهة بالشعر العذري العربي، وبهذا نختم هذه الفقرة في
الأغراض الشعرية الجزائرية.
ولا شك في أن هناك شعراء جزائريين أخريين طرقوا موضوع الفخر مثلما نجد في شعر
محي الدين بن الأمير عبد القادر في الفخر بشجاعته ومثلما نجد في شعر جماعة من
المقربين إلى السلطات الإستعمارية في مدح نابليون الثالث إمبراطور الفرنسيين
" والعرب" كما يحب أن يسمى نفسه، وعلى كل حال فإن أغراض الشعر الجزائري خلال
القرن 19 م كانت كلها تقليدية.
الحلقة الثانية : الشعر الإحيائي و الإصلاحي والنضالي الثوري.
1-2 : عوامل الإحياء واليقظة في الأدب الجزائري مطلع القرن ( 20 م)
عرفنا من قبل حالة الشعر الجزائري خلال القرن ( 19 م)، وسجلنا باهتمام تجربة
الشاعر الأمير عبد القادر بن محي الدين الذي يعد بحق فاتحة شعر الجزائر في العصر
---------------------14--------------------
الحديث، بفضل وعيه الفني المتميز بخصوصية الشخصية الوطنية الجزائرية التي سعىإلى تجسيدها في مشروع دولته المستقلة اولا، بالرغم من محن الإستعمار الفرنسي
المتلاحقة، وثانيا بفضل تعبيره الفني الشعري عن هذا الوجدان الجزائري الحي، وتمثيلملامح الشخصية البطولية المتميزة بكل أبعادها العربية والإسلامية والمحلية، وما تتضمنهمن مقومات القوة والحق والعدل والتشبث بالحياة الكريمة والذود عن العزة الشامخة التي
ينفرد بها شعر الأمير عن أقرانه في ذلك العصر.
وفي مطلع القرن ( 20 م) جدت أمور كثيرة في المجتمع الجزائري، أعادت الأمل فينفوس الجزائريين، فدبت الحياة في عروق أدبائنا وشعرائنا بظهور بوادر انفتاح نسبيعلى إحياء الأمل في زرع بذور إصلاحية ونضالية وثورية في دماء الشعر والأدب
الجزائري بفعل عوامل كثيرة فصل فيها الكاتب الجزائري سعد الدين بن أبي شنب في
مقال مطول بعنوان " النهضة العربية بالجزائر في النصف الأول من القرن الرابع عشر
للهجرة " [ مجلة كلية الآداب الجزائر، عدد 1] ونجمل هذه العوامل كالآتي :
- على الصعيد السياسي: عدل الزعماء الوطنيون الجزائريون مؤقتا عن مواجهة
المحتلين بقوة السلاح الناري إلى محاربته سياسيا وثقافيا وإعلاميا باستغلال قوانينهالإدارية في الديموقراطية والانفتاح الثقافي والتسامح الديني التي تتبجح بها الدولة
الفرنسية هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن صعود جيل من المثقفين الجزائريين المتعلمين في المدارس
الفرنسية الإسلامية وإتقانهم لغة المستعمر قد سمح لهم بالعمل في الدوائر الرسميةوتولي بعض المناسب فيها فعرفوا عن قرب منطق التعامل مع هذه الإدارة الأمر الذييسر عليهم المطالبة بحقوقهم وحقوق الشعب الجزائري بطرق سلمية كما نعرف عن
حركة الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر بعد المشاركة الجزائرية في الحرب العاملية
الاولي ضمن قوة الجيش الفرنسي .
- وعلي المستوى الإجتماعي تحسنت أوضاع الجزائريين في فلاحة أرضهم
والإستقرار بها، كما تشكلت نواة من الموظفين الإداريين الجزائريين، ونواة أخرى
لهم من العمال والأجراء في تكتل شبه نقابي بالموانئ والمناجم والسكك الحديدية
------------------15-----------------
وغير ذلك فصارت تهدد بالإضراب والمسيرات للمطالبة بالحقوق، وهو وعي
اجتماعي جديد تماما تغذيه التيارات السياسية العمالية عالميا و محليا .
- وعلى الصعيد الثقافي استوعبت النخبة المثقفة الجزائرية كل هذا التكتل والمد
الشعبي المتنامي والوعي المتزايد بعناصر الهوية الوطنية واستقلالها عن هويةالمستعمر، فنشطت المطالبة بفتح نواد وتأسيس جمعيات للجزائريين محليا ووطنيا
يمارسون فيها مختلف الأنشطة الثقافية والألعاب والتسلية في لقاءاتهم وتجمعاتهم
الهادفة، فظهرت تبعا لذلك المكتبات للمطالعة والصحف الوطنية المعبرة عنمشاغل الشعب الجزائري وهمومه كما ظهرت العروض المسرحية والأنشطةالرياضية أسوة بتجمعات الأوربيين واليهود في أنديتهم ونشاطهم الثقافي والديني،
وهكذا انطلت الألسن والأقلام تتكلم وتكتب والعقول تفكر والإنتاج الأدبي يزداد
فانتعش الشعر والنثر والمسرح، وقويت حركة التأليف بالعربية ونشر المخطوطات
التراثية مع وجود المطبعة لأحد المستعربين يدعى " فونطانا " بالعربية، وقد ساعدالإستقرار النسبي في الجزائر وهذا الانفتاح المحتشم على تشجيع كثير من العلماء
الجزائريين المهاجرين للعودة إلى الوطن كالشيخ الإبراهيمي و الشيخ الطيب العقبيوالأمير خالد كما ذكرنا وغيرهم، ونشطت هممهم للتدريس العربي الحر في
المساجد أو في مدارس الجمعيات الوطنية ونواديها.
ومن جهة أخرى نشطت حركة نشر التراث الجزائري الأدبي والعلمي ليتعرف عليه
أبناء الجزائر ويدركوا عظمة أجدادهم وعزة وطنهم عبر التاريخ، فألف الشيخ سعيد
بن زكري بعد عودته من المشرق كتابه " أوضح الدلائل على وجوب اصلاح الزوايا
ببلاد القبائل " . وكتب أبو القاسم الحفناوى بن الشيخ كتابه الضخم، وأطلق عليه هذا
العنوان الدال " تعريف الخلف برجال السلف" عام 1905 م، وأخرج محمد بن أبي شنب
العلامة العضو بمجمع اللغة العربية بدمشق يومئذ عدة أبحاث في العلوم العربية
والاثار الجزائرية و الأندلسية اندهش لها المثقفون الفرنسيون قبل الجزائريين [ ينظر
عبد الرحمان الجيلالي محمد بن أبي شنب- حياته و أعماله].
-------------------16------------------
وتبع الشيخ مبارك الميلي هؤلاء الكبار بإخراج كتابه الخطير الشأن يومئذ وهو "
تاريخ الجزائر في القديم والحديث ( 1926 ) ردا على مزاعم السلطات الإستعمارية
التي تنكر أن يكون للجزائر تاريخ وحضارة.
وختمت هذه الحلقة الأولى بصدور كتاب أنيق في موضوع من صميم الإبداع الأدبي
والوجداني لأبناء الجزائر في الحاضر هذه المرة كتبه شاب جزائري طموح وهو
الهادي السنوسي بعنوان " شعراء الجزائر في العصر الحاضر " ذكر فيه مالا يقلعشرين شاعرا جزائريا اثبت لهم فيه قصائد ومقطوعات شعرية رائقة بالإضافة الى
ذكر أخبارهم العلمية والوطنية.فتأكدت بذلك هوية الجزائر الحقيقية في هذه الكتب
وشعارها – كما عبر الشاعر الجزائري محمد اللقائي السائحي
بني الجزائر ه الموت يكفينا ذا
لقد أغلت بحبل الجهل أيدينا
2-2 الشعر الاحيائي الإصلاحي في الجزائر
كان من الطبيعي جدا أن يرتبط الشعر الجزائري الحديث بتيارين عظميين في حركة
اليقظة والنهضة العربية الحديثة وهما تيار الإصلاح الديني والإجتماعي لإنقاذ عامة أفرادالشعب الجزائري وخاصتهم من التردي في الضلالات والأباطيل التي زرعها الفكرالإستدماري الغازي لبلادنا وغذتها عقول الجهل وانتشار الأمية لتخليص النفوس من
الوهن وذهنيان التواكل والإيمان بالخرافات من ناحية وزرع عناصر الثقة بالنفس وقيمالعمل والنضال والعودة الى المنابع الأولى الصافية في العقيدة الإسلامية، لأن مأساةالشعب الجزائري أصلا كامنة في هذا التشويش الذي بثته في أوساطه الدعاية الإستعمارية
بأن الإحتلال قضاء وقدر ليس في استطاعة الشعب مقاومته.
أما التيار الآخر فيتمثل في ارتباط الشعر الجزائري الناهض بمنابع الشعر العربي القديم
واتكائه على قصائد الشعراء المشهورين في التراث واحتذاء طريقتهم في نسج الشعر
و بنائه أو ما يسمى " بعمود الشعر العربي في الأوزان والأغراض والاستعارات والصور
وحتى الألفاظ أو المعجم اللغوي المستمد من القران والحديث الشريف وكلام العرب
-----------------17-----------------
الفصيح.والغاية من ذلك زرع دماء جديدة في اللغة العربية التي أضعفها الإستعمار في
الجزائر وحاربها بشراسة ومنع تعلمها والكتابة بها إلا في أضيق الحدود.
ونقطة البداية في الشعر الجزائر الإصلاحي هي تأمل الشاعر الجزائري في الأمراضالإجتماعية والإنحرافات الدينية المنتشرة في الأوساط الشعبية مثل الجهل والأمية والبدع
المنكرة والإستسلام المريع لفكرة المكتوب" والقبول بالمظالم الإستعمارية وفي هذا يقول
أستاذنا عبد الله ركيبي :
" والدارس للأدب الجزائري الحديث يلاحظ ان الشاعر في هذه الفترة كان يتأمل واقعالمجتمع، وما استشرى فيه من أداء محاولا إصلاحه من زاوية الدين، فنراه يذكر في كلمناسبة بأن الرجوع إلى القيم الروحية و اقتفاء أثر السلف الصالح هو سبيل النجاة، وأنه لا
يصلح أخر هذه الأمة الا بما صلح به أولها " [ الشعر الديني الجزائري الحديث .ص
/363.[
ومن شعراء الجزائر الأوليين الحاملين لمشروع الإصلاح في قصائدهم مطلع القرن
20 م) نذكر الشاعر : المولود بن الموهوب من مواليد مدينة قسنطينة عام 1866 ، فكان )
تعليمه الديني وثقافته الإسلامية في التراث العربي دعما له على اتباع النهج الإحياءي
والفكر الإصلاحي في بلده الجزائر، ويذكر الركيبي أن قصيدته " المنصفة" التي بناها علىنظام معلقة الشاعر عمرو بن كلتوم من البدايات الطيبة في شعر النهضة الجزائرية حيث
يقول ابن الموهوب ابتداء :
صعود الأسفلين به دهينا
لأن للمعارف ما هدينا
رمت أمواج بحر اللهو منا
أناسا للخمور ملازمينا
ونلاحظ أن الشاعر يعرض بالأذناب من الجزائريين الذين وضعوا أنفسهم في خدمةسلطات الإحتلال على حساب إخوانهم في الوطن كما يعرض بالتافهين المتهالكين على
شرب الخمور " أم الخبائث" التي تلد سائر الأمراض الإجتماعية الأخرى ويعد الشاعرهاتين الآفتين من الدواهي الكبيرة إلى جانب آفة الإقبال على اللهو ومجانبة الجد في العمل
والإستقامة في السلوك. ويعد شاعرنا في قصيدنا مجموعة من الأمراض والانحرافات
-----------------18----------------
التي يشجعها الإحتلال مثل القمار، والربا، والسعي المستعمر بالنميمة إلى أن يصل إلى
آفة الجهل النكراء فيذكر معها بما امر به الكتاب العزيز من وجوب التعلم والعمل قائلا:
نعم : إنا شقينا إذ شقينا
كؤوس الجهل لكن ما روينا
ينادينا الكتاب لكل خير
فه كنا لذلك سامعينا ل
يا
نا
فهذا الهتاف العنيق هو نداء ربنا في القران الكريم الذي يقرأ منه المسلم في كل يوم بعض
الآيات في صلاته، ولكن غشاوة الجهل على أذنيه يجعله لا يسمع " اقرأ باسم ربك".
إن شاعرنا إذ يذكرنا بحضور الوعي والفطنة ونبذ الغفلة في أمور ديننا الحنيف يذكرنا فيالوقت نفسه بتراث العربية لسان حال القرآن العظيم،ويكاد يعيد على سمعنا بعض الشعر
العربي الذي قرأه هو فيستدعي في أبياته أبيات قصيدة عمر بن كلثوم لاسيما في قوله
فإنا الجاهلون إذا فعلنا
وإنا الفاعلون إذا نهينا
وأنا الناكرون لكل بر
وإنا الراكنون اللذينا
وهي لهجة تقريع وزجر ونهي استمدها في معلقة عمرو بن كلثوم ليوظفها في سياق
مختلف عن الماضي لكن الأداة واحدة.
ثم يخلص الشاعر الى غرضه المحوري المتمثل في الحث على تعليم الإسلام السمحة
الصافية في كلام الله المنزل وحديث رسوله الصحيح.
إلا قوم ما السلام هذا
ودين الله رب العالمينا
أتى الإسلام بأمر يعلم
وبشير في المنافع ما حيينا
وجمع بين دنيانا وأخرى
تدبر قول خير المرسلينا
------------------------19--------------------
فها هو ذا طريق النجاة والفوز في الدنيا والآخرة إذن طلب العلم الصحيح الذي أمر بهالقرآن و الشرع وبينه الحديث الشريف ثم العمل الذي يجمع بين سعادة الدنيا وخير
الآخرة.
إن شاعر المولود بن الموهوب قدادى هذه المعاني كما نرى بلغة سليمة مبشطة ومنطق
سهل واضح لم يتكلف فيه الغريب ولا الجمل الطويلة الملتوية، وهذا يناسب تماما مستوى
قرائه في ذلك الوقت.
وبحق لاحظ الأستاذ الركيبي أن شعراء الإصلاح والحياء في الجزائر لهذا الوقت المبكر
مطلع القرن العشرين " نجد الشاعر منهم يتأمل نفسه والكون والطبيعة وينطلق من ذلك
الى الحديث عن العلم بعد أن يقنع الملتقي أن الحياة لا تستقيم إلا بالعلم"[ الشعر السياسي
579 ] والعلم هنا يعني العلم بالدين الحنيف على أصوله الأول ثم العلم بسنن الله في
( الطبيعة والكون، يقول شاعر جزائر آخر يدعى سعد الدين بن الخمار ( ولد 1866
الله أكبر نور العلم وضاح
وللخلائق أمواح وأفراح
والكون بيت عديم النور محتجب
والعلم زيت وهذا العقل مصباح
والعقل رتل تسير الكهرباء به
كما تسير بهذا الشبح أرواح
فتشبيه الكون بالبيت والعلم بالزيت الذي يوقد للإضاء صورة بديعة وبرهانية مقنعة جداومأخوذة من الوسط الاجتماعي في ذلك العهد، كما أن ذكر العقل الكهرباء يناسب ثقافةسكان المدينة يومئذ في مقابل زيت المصباح في أكواخ الريف، وبهذا وفق الشاعر إلى
رسم صورة دالة ومعبرة في وقت واحد.
هذا، ولو لرحنا نتقصى جميع الشعراء الجزائريين الذين عالجوا موضوع الإصلاح ويقظةالضمير الديني والوطني في الرابع الأول من لقرن العشرين لطال الكلام عنهم مثل
الشاعر المولود الزريبي نسبة الى زريبة الوادي قرب بسكرة في مثل قصائده " زفرات
العشى " " وزفران الحيران" و"معه كئيب "
------------------20-------------------
وكذا الشاعر عبد الحق الحنفي نسبة إلى خنفة سيدي ناجي الذي دعا صراحة إلى العودة
للكتاب ولمسنه ليس غير فما الدين إلا من كتاب وسنة وغيرهما زور من القول منكرولكن الشاعر الجزائري اللامع في هذه الحقبة حتى غطى شعاعه الشعري الإصلاحي
على شعره غيره إنما هو عمر بن قدور الجزائري نسبة إلى مدينة الجزائر والذي عاش
1932 م) وبعد أن أتم تعليمه الحر اشتعل بالصحافة فأسس مجلته " – ما بين ( 1886
الفاروق" في 28 فبراير 1913 ، واختار لها هذا الإسم الرمز لتكون عنونا لدعوته
الإصلاحية الجادة لا يقاظ الضمائر واثارة الهمم في بني وطنه، وكان عمر ابن – كاتبا
بليغا وصحفيا محررا وشاعرا احيائيا على طريقة الشعراء القدماء الكبار، وتشهد إثارةالكتابية بعمق ثقافته وسعة اطلاعه وحدة وعية القومي والعربي والإسلامي، وهي البيئات
الثلاثة التي سخر قلمه للكتابة فيها والدفاع عنها.
أ- على صعيد البيئة المحلية كان ابن قدور يناضل بقلمه وشعره لأجل إزالة غشاوةالضلال والانحراف الديني والخلقي ومحاربة الجهل بالإسلام على حقيقته لا كماروجت له الطرقية المنحرفة التي تلقى تشجيعا من سلطات الاحتلال يقول المولود
الزريبي في القصيدة الأولى
كأني بزفرات العشي موكل
وفي الكوكب الإفريقي ابدي دواها
إذا دهمتني النوائب برهة
رفعت له الشكوى فأمسي مساها
فأنت تراني تارة أزعج الملا
وحينا كما الخنساء ترثي أخاها
أقول وأهل الحي منى بمسمع
وأغرق عيني في بحور بكاها
أعوذ برب العرش من فئة طغت
وما برحت في غيها وعماها
والملاحظ في بناء هذا الشعر تلك الروح الإحيائية المتحمسة كما يبينه هذا المطلع الذي
يشير الى مصادره في الشعر العربي القديم.
------------------21-----------------
لكن نص القصيدة الثانية للزريبي أشد أحكاما و ادخل في صنعة الفن الشعري واكثر
اقترابا الى روح العصر الحديث كما نرى في هذا الاستهلال
يابدر مال بإنحاء تفتخر ك
يا
خ
الم تكن لطلوع الشمس تستتر
إلى أن يقول:
و العقل تصلحه العلوم و الحكم
و ليس تصلحه الآصال و البكر
قوم مالي أراكم في جهالتكم
كقوم موسى طغوا فهالهم صغر
هذا الذي ترك العلوم امدة
و أفسد القطر حتى عمه الضجر
إلى أخر هذه القصيدة التي تقيض بالروح الإصلاحية و الدعوة إلى أحياء المجد الغابر
للحضارة العربية و الوعي القومي بالاحتلال لتمرير مشاريعها الاستعمارية باعتبار وجود
الفرنسيين بالجزائر كان قضاءا وقدرا من الله لا جدوى من محاربتهم، ففي قصيدته " قلب
أواب" نظمها عام 1913 يصور ابن قدور هذا الإحساس بالإنحراف عن جادة الصواب
عند من يزعمون المشيخة بوظيفة رسمية يقبلونها من سلطات الاحتلال وهم يضرون
الشعب أكثر مما يرشدونه، ويتشوق إلى اليوم الذي يرى فيه الإصلاح قد تحقق في بلادنا
قائلا :
قلب له ارب أعلى مراتبه
أن يبصر الشعب والإصلاح يدخله
رحماك يارب كم أنشأت من ذمم
إلا ودينك بالأرزاء تمهله
اخترت حامله فردا، وأمته
منحطة، شهمها الأواب تخذله
واخترته معدما قلت وسائله
والنهج من حوله الأخطار تذهله
-------------------22-----------------
يكاد فني أسى مما يحيط به ي
لولا أن يرى رأفة المولى تظلله
فهذه صورة للنبي محمد (ص) أيام الدعوة الإسلامية الأولى، ولكنها أيضا صورة المصلح
الجزائري الصبور أيام الإحتلال الفرنسي لبلادتنا فيتشابه الموقفان ويتداخلان في هذا
النص الشعري بألفاظه الجزلة وموسيقاه الهادرة وكأننا نرى مشهدين في إطار صورة
واحدة.
وفي قصيدته الأخرى " الضمير الاصدع " نرى عمر بن قدور مصلحا ثائرا مجاهرا
بدعوته إلى اتخاذ العلم الصحيح مطية لدعوة الحق، ومفنذا في الوقت نفسه أدعياء العلم
المزيفين الذي يصطنعون الخديعة والكذب للاستحواذ على أموال الشعب عوض تنوير
عقولهم فيقول :
اعرف جمال العلم عند حلوله
بضمير شهم للصلاح رفيق
وأنكر- هداك الله- خطة عالم
يلهو ، ويزعم إنه لخليق
دعواه أن العلم محض دراسته
ولصيد أموال الرجال يليق
فهذه صورة شعرية رسمتها الكلمات لمعركة حقيقية حامية بين علم جميل ناصع البياض
وعلم قبيح كالح مسود، بين عالم يجد في التحصيل والعمل والإبداع والتوعية وعالم مزيف
يراءي الناس ويتحين الحيل لكسب الأموال بالباطل ويتخذ المنصب وسيلة لذلك، لهذا لا
نستغرب أن يكون " الشيطان" أحد المناصرين للباطل في تلك المعركة الإصلاحية التي
يقودها الشاعر ضد الجهل في قوله :
وإذا أبت نفس الفتى من علمه
وعظا دعت شيطانها فيسوق
وما أحسن ما قال في الأبيات اللاحقة وما أجود تعبيره في مثل " صيحة أمة " ساءت
مداركه" قائلا :
وإذا أراد الله صيحة أمة
--------------------23-------------------
مدت إليها بالذهول طريق
وسما على رغم الشرائع كل من
ساءت مداركه ف اء يروق ج
ط
حسب العلا عند اقتناص مناصب
أو عندما يخشى الوسام بروق
وما أبلغ أسلوب التقديم والتأخير النحوي الذي لجأ إليه الشاعر في الشطر الثاني من البيتالأول والثالث والصدر من البيت الثاني، ولا شك أن شاعرنا ابن قدور كان في مستوى
أستاذه أبي تمام الذي استعار منه الإطار والقالب دون الصورة والمحتوى حيث يقول أبو
تمام :
وإذا أراد الله نشر فضيلة ويت أتاح لها لسان حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاورت لم يعرف طيب عرف العود
لكن ابن قدور مشعول بالإحياء والإصلاح العميق الصادق وإيقاظ النفوس الغافلة عن
الحكمة السائرة.
وقد يستعمل الشاعر ابن قدور أسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يضمنه الإستغراب
و الإدهاش للتعبير عن حسراته على هؤلاء الذين مازالوا في غفلة من أمرهم و أمر
بلادهم ودينهم رغم وضوح الحجة وبيان النهج فيقول
كيف السبيل إلى التقدم والنهي
والسعي غيي والفعال عظاة
الله أكبر ما وجدت بقومنا
من بالمعارف والهدى يقتات
أخلاقهم تنمو بها أدرانهم
وقلوبهم تنمو بها الحسرات
فالصورة الفنية التي رسمها في استعارة القوت للمعارف في البيت الثاني للدلالة على
عنصر الخير مقابل تشبيهه الأدران أي الذنوب والحسرات بالنبات الذي ينمو للدلالة على
عنصر الشر هو من أحسن الشعر، إذ جمع بين الشيء وضده وبين السبب والنتيجة في
صورة جامعة.
----------------24--------------
ولقد كانت صيغة الشاعر عمر بن قدور بعد ذلك في مجال التشبيه على أهمية الأخذبأسباب العلوم والجد في تعلمها لأجل الرقى وتحقيق الكرامة الإنسانية مازال يدوي في
أذاننا إلى اليوم، أن ننظر إلى الأمم من حولنا ونتأمل أسباب التقدم والعزة والرفاه وهل
يكون ذلك كله إلا كما قال ابن قدور منذ ما يقرب من مئة سنة:
بربك! هل تدري الحياة ؟ وأنها
جهاد! وأن العيش ضيق ومغرم
هل تعلم القوم الذين تقدموا
علينا ؟ بعلم لا بجهل تقدموا
صحيفة هذا الكون تنشر دائما
وتعلم أن المجد أمر محتم
ذلك هو الشعر الإصلاحي الإحياءى الذي حمل لواءه في الجزائر الشاعر الرائد دون
منازع عمر بن قدور الجزائري الذي كانت نفسه تحترق بين جنبيه لتحقيق نهضة
إصلاحية حقيقية ببلاده فعاش حياته مشهرا لها قلمه مدافعا عنها يحدوه الأمل في تحقيقها
يوما ، وقد يعصف به اليأس أحيانا أخرى لأنه كما يقول :
عظيم على نفس اللبيب مذلة
تدوس نفوس تستهام وتظلم
يا حسرة تغدو على القلب حينما ف
يرى أمة تفني وأخرى تقسم
وتلك حال الأمة العربية و الإسلامية التي عمل فيها الإستعمار سلاح التقتيل والتقطيع،
غير أن الإنسان الحر من يقبل التحدي ولا يقبل الهوان ولا يسكت عن الباطل.
3-2 الشعر النضالي و التحريض الرومانسي علي الثورة :
ارتبط الشعر العربي عامة و الجزائري خاصة بفكرة النضال منذ حلول الغزو و الاحتلال
ببلادنا ، فكانت تجربة المقاومة مستمرة بكل الوسائل المتاحة . و لما كان الشعر تجربةوجدانية مؤثرة فقد كان احد اسلحة هذه المقاومة لشحن الشعور بالعزة و الكرامة و حمل
----------------25----------------
النفوس الابية علي الثورة ضد الاحتلال و تحريضها علي قتال الاعداء فامتزج ذلكالشعور الثوري بحب الوطن و التمسك بالمقومات القومية و التغني بجمال الوطن و
طبيعته الفاتنة .
و قد يكون الكاتب الشاعر و الصحفي القدير رمضان حمود الدي لمع نجمه في جزائر
العشرينات من الرواد الذين نفثوا انفاس الثورة العارمة في الشعر بعد حماسة الامير عبد
القادر علي اختلاف في فن الرجلين فكان قلم الكاتب رمضان حمود المشتعل في ميدانالمفتلة الصحفية في مثل شعلة انفعاله في قصائده الشعرية للحث علي الثورة و شحن
الشعور القومي الوطني يقول في قصيدة بعث بها الي صديقه ابي اليقظان :
يا رافعا قلما للحق تشهره جزاك ربك منحلا كمرتحل
لك الدعاية ، فالاذان صاغية فاصدع بحق و تركن الي ملل لا
و
ه
با و
انذر ، و نهض بلادا ساء موقفه بين الانام ، و كانت قبل في قلل
و انفخ بها قوة تشفي الغليل بها اصرخ ، و حرض و أيقظها من الكسل
شر البلاد بلاد خاف ساكنها من جمرة الجور او من فتكة السفل
فقد وظف الشاعر معجما لغويا في غاية الجرأة و الحماسة و استعمل لهجة التحريض
المباشر في قوله ( انذر ، نهض ، انفخ ، اصرخ ، حرض ، ايقظها....) مولدا بهذا مناخا
ثوريا حقيقيا يوشك ان يتحول في البيت الاخير الي بلاغ حزبي يحرض علي الثورةفشعره هذا يحمل شحنات عالية من الانفعال بالغضب و يستحضر الاحساس بالتحرر من
ظلم المستعر الفرنسي .
هذه اللهجة التحريضية و الغضب الشعبي نجده في شهر الشاعر الجزائري الاخر محمدالهادي السنوسي الذي ادهش النخبة المثقفة بوعيه المبكر و شعره الثوري النضالي ففياحدى قصاده الي صديقه ابي اليقظان بالجنوب الجزائري راجيا منه ان ينشرها في
صحيفته واد ميزاب نقرا فيها ابتداء :
دعا بك من قومي خيار شبابي فلا تنائ عن داعي الهدى بجناب
اذا كان همي مثل مك فاليكن عذابك في دور الكفاح عذابي
و ليس لنا الا الجزائر موطنا ترابك فيها واحد و ترابي
هي الام است في الص كل مرضع فيها اهتدى الساعون سبل صواب
------------------26-----------------
ساقضي لها حق الامومة انها بلادي التي فيها محط ركابي
ففي هدا الشعر نتحسس جزءا من ذلك الحب الكبير العميق الذي يحسه هذا الشاعر اتجاهوطننا الجزائر ايام الاحتلال اذ كان وطنا مسلوبا ، ز نكاد نلمس في هذا الشعر قيمة
الاشياء العزيزة و نشم رائحة التراب غي البيت الثالث ، و نرى صورة الواجب المقدسفي البيت الرابع مقرونة بصورة الامومة المقدسة في البيت الخامس كل ذلك جاءنا بانفاس
من الحنين الرومانسي الذي يذيب الانسان في الطبيعة و كان السنوسي الشاعر يلح اكثر
علي صورة التمرد و الثورة من خلال التكرار الذي يثبت به المعني في النفس
وكل امرئ حر الضمير فانني سانزله مني فسيح ركابي
و اني لحر في حياتي فان امت فحريتي المثوى حسن مآبي و
يا
ه
فشاعرنا قد تحررت مشاعره تماما اذ حرره شعره الذي ارتفع بفضله فوق قهر الاحتلال
، وهو ما يشعر به كل مواطن جزائري في اعماق نفسه فارواح الجزائريين الاحرار لا
يستطيع الغزاة القبض عليها مهما اشتد قهرهم و بطشهم في ذلك الوقت .
هذا المعني ذو المنزع الروحي التحرري نجده مغروسا في تجربة شاعر جزائري اخر فيدلك العهد و هو محمد السعيد الزاهري الذي تعلقت همته بتعلم العربية و تملك ناصيتها
حتي صارت طيعة عاي لسانه منذ حداثة سنه اذ يقول و هو بعد طالب بالزيتونة خاطبا
الجزائر وطنه المسلوب :
للجزائر ! من هاضها وسطا حكما عليها ، و كانت امة وسطا
لملكها كانت الايام صاغرة اكان اقسط ذاك الملك ام قسطا
فكم ممالك كانت تحت عزتها كالبازي ملئ رعبا منه سرب قطا
لم تعتلق بعظيم قط متنا الا اثنينا ، و لسنا نعرف القنطا
غهذا البيت الاخير جامع المعني تلتقي عنده خيوط الصورة الفنية التي رسمها الشاعر
لعزة الاجزائر و كراتها عبر التاريخ ، و قد اختار لها حرف الطاء رويا متكررا لموسيقاه
الجهرية الطنانة كي نعكس وقعه في النفس فيتولد منه الاحساس بالثقة و الافتخار .
و الشاعر الزاهري هو ايضا صاحب القصيدة الجميلة التي خلد فيها حبه للجزائر و تفانيه
من اجلها كما يفني الصوفي في حب الله يقول علي الخصوص :
ويلاه اذهل خاطري عما بي ما للجزائر من اليم عذاب
-----------------27-----------------
فنسيت في بؤس الجزائر كلما القاه في الدنيا من الاتعاب
و فنيت في حب الجزائر مثلما يفني المحب الحق في ا حباب لا
و
ع
لا ذا
ط
كيف الخلاص من الجزائر بعدما ملكت علي مشاعري و صوابي
فاذا ضحكت فللجزائر ، او بكيت فلم يكن الا لها تنحابي
او ابت يوما او ذهبت ففي الجزائر مذهبي ابدا و مآبي
و اذا اصاب بني الجزائر حادث فهناك عظم بليتي مصابي
و يلذ لي من بعد ذلك ان يطول لي الجزائر ف الحساب حسابي
هذا شعر يجمع بين سيولة الايقاع و رشاقة اللفظ و متانة التعبير عن الشعور فتوحداحساس الشاعر بمكونات وطنه حتي لم يعد شاعرنا يري شيئا او يسمع شيئا او يتذوق
شيئا الا من خلال صور الوطن بانسانه و طبيعته و ارضه و هوائه .
و لا نكاد نصل الي محمد العيد ال خليفة الذي عرف بشعره الاجتماعي و الاصلاحيكثيرا حتي نجده هو الاخر قد شارك غيره من شعراء الجزائر هذا الاحساس بالثورة علي
المحتل الغاصب و الدعوة الي مقاومته كما في قصيدته ( الثامن ماي 1945 ) يقول فيها :
فيالك من خطب تعذر وصغه فلم تجر اقلام به فوق قرطاس
و خير في عد المظالم وحدها ا لم تبن عن مرهفات و اتراس
سئمنا من الشكوى الي غير راحم و غير محق لا يدين بقس اس
فهذا تحريض ضمني علي رفع السلاح لمحاربة المحتلين بعد ان وصفهم الشاعر بعدمي
الرحمة و هاضمي الحقوق .
و هناك شعر كثير جدا نظمه الشعراء الجزائريون في جرائم المحتلين في الثامن ماي
1945 حتي ان أستاذنا عبد الله ركيبي قد جمع منه ما يعادل ديوانا من الشعر و نشره بهذا
الاسم و هو كما نرى شعر نحس فيه حرارة الوجدان و صدق التجربة الي قوة الصياغة
اللغوية و مناسبة الالفاظ للصورة مما يعني انتعاش اللغة العربية و استرجاعها لمكانتهابفضل جهود جمعية العلماء و المدارس الحرة و الحس الشعبي الاصيل ذلك الحس الذي
حمله هذا الشعر و عبر عنه بقوة فكان خير ممهد لتحضير النفوس و قيام ثورة التحرير.
-------------------28-----------------
4-2 ثورة التحرير الكبرى ودويها في الشعر الجزائري:
سبق الذكر أن أصوات الشعر الجزائري الداعي إلى الإصلاح الديني والاجتماعي قدبلغت غايتها في مشروع جمعية علماء المسلمين الجزائريين وتحولت إلى أصوات استنفاروتحريض على الثورة وتأجيج شعور المقاومة، النضال على ذلك النحو من السخط العارم
الناقم عقب مجازر الإحتلال في الثامن ماي 45 الذي كان الشرارة الأول للثورة المسلحة
الكبرى.
كما أن أصوات الشعر الجزائري الضاجة بالشكوى من البؤس والحرمان وظلم الاحتلالوالعيش التعس والجهل القبيح قد وصلت إلى حد الإشباع هي الأخرى، وتبين للشعراء
الجزائريين أن رسالة الشعر الحق أن يقدم الغذاء الروحي المعنوي ويرسم طريق الأمانيوالخلاص ويزرع الثقة في النفوس لتنهض والعزائم لتقوى وتقام لا أن يقدم مزيدا من
الدموع والآهات.
لهذا كله جاء إعلان الثورة الكبرى واندلاع حرب التحرير الشاملة في بيان أول نوفمبر
1954 ) بمثابة إنقاذ لهذا الشعر الجزائري الذي كان قد بدا في مضمونه كأنه شاخ وبلغ )
النهاية في أغراض التشكي والتبكي وفي صرخات الدعوة إلى الإصلاح، فسارع الشعراء
إلى اعتناق الثورة المعلنة وتنافسوا على اختلافهم في التعبير عن لهيبها بحماس فياض
افقدتهم أحيانا كثيرة السيطرة على القريض وكادت عزة الثورة أن تنسيهم نخوة الشعر،
فنظم مفدي زكريا ديوانه " اللهب المقدس" تحت تأثير شموخ هذه الثورة وارتفاع نغمة
البارود كما نقرأ في قصيدته " وتعطلت لغة الكلام " في إشارة إلى لغة السلاح الفاصلة
بين حق الشعب الجزائري الثائر وباطل الاستعمار المنهزم لا محالة بركان يقذف الحمممن فوهة النصر المرجى الذي تحدوه قوافل الشهداء، غير أن هذا الإستهجان المزعوم
لتهافت الكلمة الشعرية أمام قوة التضحية بالروح والدم سرعان ما يتبخر في ذهن أبيالقاسم خمار فيندفع إلى نظم ديوانين من الشعر في أحداث ثورة التحرير رغم بعده عنها
خارج الوطن يقول في سياق الخطابة واللهجة الثائرة :
أين مني قصيدة تتلظى من قصيد يفيض حبرا أبيا
أين مني أغنية لليالي من هتاف غطى الربوع دويا
أين مني، وفي الجزائر آهات تهز القلوب هزا قويا
-----------------29-----------------
هزالي إذا رفعت مع لثوار صوتي ولم يكن مدفعيا يا ا
ط
فمنطق الثورة والحرب مع العدو يقتضي استعمال السلاح الناري المادي المدمر لان
سلاح الكلمة الشعرية غير مجد ولا نافذ فعواطف الغزاة –على كل حال- ليست من الرقة
واللطافة أو الرحمة بحيث يؤثر فيهم الكلام الشاعري الرقيق وكان من نتائج هذا التوجه
الشعري إلى تصوير مواقف الحرب والمواجهة المسلحة وأعمال التعذيب أن تكون في
الشعر الجزائري معجم لغوي ضخم اشتق مادته من مفردات السلاح وأدوات التعذيب
ومكونات السجون والمحتشدات، يقول صالح باوية
أقسمت أمي بقيدي، بجروحي
سوف لن تمسح من عيني دموعي
أقسمت أن تمسح الرشاش
والمدفع والجرح بمنديل الشموع
فهذه الأم صورة فنية لكل الأمهات اللواتي تخلين عن العواطف الذاتية الخاصة تجاه
فلذات الأكباد المدللين عادة والارتفاع إلى الواجب الوطني المقدس والمشاركة الفعلية في
أعمال الجهاد وتحرير البلاد.
ويعد محمد الصالح باوية، وهو طبيب جراح، من أوائل الشعراء الجزائريين الموفقين إلى
التجديد في قالب الشعر العربي بالجزائر، ففي قصيدته '' ساعة الصفر'' التي نظمها في
قالب الشعر الحر نجده وقد تحول في شعره في شهر نوفمبر الذي شهد إعلان الثورة
المباركة الي رمز كبير غني بدلات والايحاءت المتعددة بعضها بطولي وبعض روحي
عميق، يقول الشاعر صالح خرفي في ديوانه " أطلس المعجزات "
بايعت من بين الشهور نوفمبرا
ورفعت منه لصوت شعبي منبرا
شهر المواقف والبطولة قف بنا
في مسمع الدنيا وسجل للورى
فلأنت م لع فجرنا وزناد بركان
أثرت كمينه فتفجرا
-------------------30----------------
فنوفمبر في هذا الشعر لم يعد مجرد كلمة تدل على زمان من بين كلمات الأزمنة الأخرى
بل هي كلمة مباركة عظيمة يلحقها التقديس لأنها حاملة لمشروع عظيم هو تحرير شعب
وميلاد وطن ودولة وناهيك به من مشروع طموح بالغ الأثر والأهمية.
وكان بعض الشعراء الجزائريين ممن أوفدتهم جمعية العلماء وجبهة التحرير للدراسة فيالمشرق العربي أمثال صالح خرفي وأبي القاسم خمار وسعد الله وغيرهم يستقون أخبار
المعارك الطاحنة في القرى والمدن الجزائرية وبطولات المجاهدين الجزائريين مننشرات الأخبار والبيانات الثورية، فكان هؤلاء الشعراء يحسون بنوع من الامتعاض أمامقوافل الشهداء ويخجلون حتى من الكتابة عن الثورة لان ما يطلبه وطنهم منكم أكبر من
ذلك، يقول أبو القاسم خمار في ديوانه " أوارق "
أنا أغرد للنضال ولا أغني للرجولة لا
ح
يا و
ملت مسامعنا وعاف الشعر ترديد البطولة
لمن الهتاف ؟ وأمتي لم تزل بين الحمم
الصمت أبلغ في الوعي والنصر للزحف الأصم
فظاهر ما توحي به الصورة الشعرية هنا الامتعاض الشديد من أصوات الشعر الهادئةاللينة في موضوعات النضال والرجولة والبطولة التي محلها الحقيقي ساحة المعارك
وليس أغاريد الاطيار أو أغاني الشعراء – الرقيقة مقارنة بالفعل الثوري الحاسم والزحف
الاكيد للثورة كأنه انفجار بركان يقذف الحمم من فوهة النصر المرجي الذي تحدوه قوافل
الشهداء .
غير ان هذا التقليل من شان الكلمة الشعرية امام قوة التضحية بالدم و الروح سرعان ما
يفجر في دهن الشاعر ابي القاسم خمار قصائد حماسية تملا ديوانين له يقول في احداها :
اين مني قصيدة تتلظى من قصيد يفيض برا ابيا
اين مني اغنية لليالي من هتاف غطى الربوع دويا
اين مني ، و في الجزائر اهات تهز القلوب هزا قويا
هزالي اذا رفعت مع الثوار صوتي لم يكن مدفعيا
-----------------31---------------
فمنطق الثورة و الحرب مع العدو ينفع معه استعمال السلاح الناري المدمر لان سلاحالكلمة الشعرية غير مجد فعواطف الغزاة ليست من الرقة و اللطافة بحيث يؤثر فيهم كلام
الشاعر الرقيق .
و كان من نتائج هذا التوجه الشعري الي تصوير مواقف الحرب و المواجهة المسلحة و
اعمال التعذيب ان تكون في هذا الشعر الجزائري الثوري معجم لغوي ضخم اشتق مادته
من مفردات السلاح و ادوات التعذيب و السجون يقول صالح باوية :
اقسمت امي بقيدي ، بجروحي سوف لن تمسح من عيني دموعي
اقسمت ان تمسح رشاش المدفع و الجرح بمنديل الشموع ال و
ا
فهذه الام صورة لامهات الشهداء و المجاهدين اللواتي تخلين عن عواطفهن الشخصية
اتجاه فلذات الاكباد من اجل الارتفاع الي الواجب الوطني المقدس و المشاركة في اعمال
الثورة التحريرية .
وهكدا نجد مسميات كثيرة لادوات التغذيب الاستدماري و النفنن في اساليبه عاي اجساد
الثوار الجزائرين حاضرة بقوة في هذا الشعر يقول مفدي زكريا شاعر الثورة الاول :
سيان عندي منفتح و منغلق يا سجن ، بابك ام شدت به الحلق
م الصياط بها الجلاد يلهبني ام خازن النار يكويني فاصتفق
و الحوض حوض ، و ان شتى منابعه
القي الي القاع ام اسقي فانشرق
سري عظيم ، فلا التعذيب يسمح لي
نطقا ، ورب ضعاف دون ذا نطق
فهو يذكر هنا ظلام السجن و حلقات التعذيب الحديدية و الكي بالنار و الغرق في حوض
الماء او تجرعه حارا و مالحا و احيانا مع الصابون و ما الي ذلك من وسائل التعذيب و
الاستنطاق الرهيب .
و كان من ردة الفعل الشعري هذه ان تحولت بعض قصائد الشعر الجزائري المخلدة
للثورة و السجون و اهوال الحرب الي نوع من الصلاة التعبدية قربانا في مذبح الحرية .
فاشتقت معجمها من لغة التصوف او من المعجم الديني كما في قصيدة مفدي زكريا ايضا
نشيد الذبيح الصاعد .
------------------32------------------
قام يختال كالمسيح وئيدا يتهادى نشوان يتلو النشيدا
الي اخر لبات هذه القصيدة المشهورة التي نظمها في سجن بربروس تكريما لروح
الشهيد احمد زهانا حين اخذ لتنفيذ حكم الاعدام فيه .
الحلقة الثالثة : حركة الشعر الحر في الجزائر
تعود الإرهاسات الأولى للشعر الحر في الجزائر إلي أواخر العشرينات من القرن الماضيدون ان يحقق نضجا لانها كانت مرحلة تجريب لا غير مع الشاعر المجدد رمضان حمود
في قصيدته << يا قلبي >> عام 1928 و التي زاوج فيها بين نظام الشطرين و النظام
---------------------33-------------------
الحر المقفي متاثرا في ذلك بمدرسة "ابللو المشرقية " . ومع منتصف القرن العشرينشرع عدد من الطلاب الجزائريين بالمشرق امثال ابي القاسم سعد الله و ابي القاسم خمار
و محمد الصالح باوية و غيرهم في نظم القصائد علي قلب الشعر الحر الذي يقراونهمنشورا في الصحف المشرقية و قد قال سعد الله الذي عده بعضهم رائد الشعراء
الجزائريين في ذلك :
"كنت اتابع الشعر الجزائري منذ 1947 باحثا فيه عن نفحات جديدة و تشكيلات تواكبالذوق الحديث ، و لكني ام اجد سوي صنم ركع امامه كل الشعراء بنغم واحد و صلاة
واحدة .. غير ان اتصالي بالانتاج القادم من المشرق و لا سيما لبنان و اطلاعي عليالمذاهب الادبية و المدارس الفكرية و النظريات النقدية حملني علي تغيير اتجاهي و
محارلة التخلص من الطريقة التقليدية في الشعر ."
فسعد الله في هذا الشاهد يؤخر لبداية الشعر الحر في الجزائر بنفس التاريخ الذي ظهر فيه
ناضجا بالمشرق عام 1947 . و الواقع ان الشعر الحر الجزائري تاخر ظهوره عن ذلك ،
و لعل اول محاولة مقبولة له كانت عام 1955 في قصيدة "يا رفيقي " التي قيلت في حرب
التحرير و نظمها سعد الله يقول فيها :
رفيقي يا
لا
نا
تلمني عن مروقي
ان ا اخترت طريقي
و طريقي كالحياه
شئك الاهداف مجهول السمات
عاصغ الارياح وحشي النضال
صاخب الشكوى ، عربيد الخيال .
و الابيات كما نرى منظومة علي تفعيلة الرمل " فاعلاتن " متكررة مرة واحدة في البيت
الاول ، و مرتين في الثاني و الثالث و الرابع و ثلاث مرات فب الابيات الاخري . ويكاد نظام القافية و الروي ان يكون ثنائيا مضطردا كما في المثال المتقدم و هذا تجديد
محدود جدا اذا قيس بقصائد السياب او صلاح عبد الصبور او البياتي.
---------------34-----------------
و لعل تجربة الشاعر الطبيب الجزائري محمد الصالح باوية في هذا القالب الحر اكثراهمية اذ استعمل باوية مجموعة من الرموز الشعرية الحديثة و اعتمد الصور الاسطورية
الموحية مثلما نجد في قصيدته " ساعة الصفر " التي نظمها في اول شرارة لاندلاع ثورة
التحرير الكبري يقول فيها :
المدى و الصمت و الريح تذري رهبة الاجيال في تلك الدقيقة
ق رات العرق الباني نداء و سلال مثقلات بالحقيقة ط
و
الاسارير اخاديد مطيرة
ثورة خرساء ، ادغال ضريرة
لون عمق يتحدي في جريرة ...
الي اخر هذه القصيدة التي تمتلئ بالرموز كالمدى ، و الصمت ، و الريح ، و رهبة
الاجيال .. و كلها لا نجدها تحمل نفس الدلالات التي تحملها في الشعر القديم رغم عيوب
القافية الرتيبة المتكررة و قد تطور اسلوب باوية في شعره المتاخر و مال اكثر الي ادخال
عنصر القصص و التعبير بالرمز كما في قصائده الثلاثة : "رحلة المحراث : و" في
الواحة شيئ " و " الرحلة في الموت " المتضمنة في ديوانه " اغنيات نضالية " حيث اتخذمن النخلة رمزا للوطن الكوني ، و من الشهيد رمزا لتجدد الحياة ، و و التصاقه بارضهو اندماتجه في مثله و تراثه ، و استئنافه حياته المادية و الروحية من حيث انتهي نشيد
الموال الذي بدأه الأجداد ، و يعد حضور العناصر البيئية المحلية في شعر باوية اهم
عناصر القوة فيه ، كالتين و الزيتون و الشيح و النخلة و اللوز و المحراث و اسماءاخري محلية كثيرة نجح الشاعر في ايجاد السياق الفني المناسب لها كما في قوله من
قصيدة " رحلة المحراث " :
اقسم بالتين و الزيتون ،
بالسنبلة ، مثنى ، وثلاث ،
بالنخلة الراسخة العلم
اقسم بالطين ، بالاشلاء
قلوب و نبات
ادغال عيني الجوت
--------------------35-------------------
جوعى ، ضلوعي او غلت
عن فكرة كادحة .. احفر .. ادمى
من قديم الدهر .. موال سفره
عن فكرة كادحة .. جوال ادغال و اهوال
و ما فارق عيني مرود النور
و رياح السفر ..
فمن هنا نلاحظ نشوء علاقات لفوية جديدة لم نعهدها في شعر السطرين ، مثل هذا
القسم بما هو غذاء مقدس يبقي علي حياة من شانه ان يحفظ حياة الإنسان ، و قد سبق
القران الكريم الى ذلك و مثل التعبير عن الجوع بالعيون الغائرة المبرحة في متاهة الفكر
بحثا عن نور الرغيف او عن فكرة الخلاص .
لقد تحول الغذاء في زمن الجوع الي أسطورة اتخذ فيها كدح الإنسان و سفره لأجل
الرغيف بأسطورة النضال اليومي القاسي عبر الليل و النهار و الظلمة و النور ، و
الإنسان الكادح في ذلك كله إنما يستيعن علي هذا السفر الشاق بالغناء و ترديد المواويل .
و كذلك نجد الشاعر الجزائري الآخر أبا القاسم خمار قد تخلى عن كثير من مظاهرالجهارة الموسيقية و الصخب اللغوي و البلاغة الحكمية الجاهزة حين كان ينظم شعره في
قالب الشطرين أثناء الثورة التحريرية فتحول في شعره الحر الى رصد حركة الواقع و
اليحاد بموسيقي الأفكار و اصطناع أسلوب القصص و الحكي الذي يقتضي من الشاعر
اللغة البسيطة و استحداث عنصري الدهشة و المفاجأة و تقوية و سائل الربط بين الأبيات
. فصار لربطه العنق في شعر خمار مثلا شان :
عليك الف لعنة
ربطة في عنقى يا
يا
و صار لعالم الناس الهائج المليئ بالرغبات المتعارضة مكانة أيضا في هذا الرصد
الشعري الوجداني :
و الناس حولي .. لهم
اشرعة من غير أي سغن
--------------------36-------------------
ما مسها ريح و لا ربان
اعمدة من حجر صفت ل مل وثن ح
يا
تا
و
و لا شك ان تشبيه افراد الناس بالسفن المبحرة في دنيا الأهواء و المصالح و تشبيه و
وجهاتهم المختلفة بالأشرعة التي تعترض حركة الهواء إحساس جديد تولد في النفس نتيجة
ازدحام السكان في المدن العصرية . و نتيجة لتعدد أغراضهم و أهوائهم و أساليب عيشهم
فيها . و جاءت عبارة الشاعر في البيت الأخير تحمل انطباعا قويا بالخواء و العبثية التي
فيها هؤلاء الناس عندما فقدوا اتصالهم بحياة الريف النامية المتجددة فصارت حياتهم
العظيمة نصبا تحمل الرأس الذي هو بمثابة الصنم الجامد لجمود الأفكار فيه .
و تعد التجربة الشعرية الحرة لجيل الشباب في السبعينيات أمثال عبد العالي رزاقي
و احمد حمدي و ازراج عمر و حمري بحري امتدادا لهذا التيار الشعري الجديد ، فقد
تخلي هؤلاء الشعراء جميعا عن الطريقة التقليدية القائمة علي الجهارة و علة النبرة
و اللغة المثالية كما تخلو عن اتخاذه الشعر الإحيائي الإصلاحي و شعر الشطرين انموذجا
لصياغة تجاربهم الشعرية الجديدة . فوجهوا قرائحهم وجهة جديدة صوب شعراء المشرق
المجددين امثال السياب و عبد الوهاب البياتي و ادونيس و صلاح عبد الصبور . ومن
مواقع التأثير المختلفة هذه حاول كل واحد من هؤلاء الشباب يومئذ ان يعبر عن أزمة
الإنسان الجزائري الذي خرج من حربه مع المحتل الفرنسي مثقلا بالأحزان مثخنا
بالجراح ، متعثر الخطوات في طريق بناء مستقبله، مرتاب في شان ثوابته ، فصور عبد
العالي رزاق ما يشبه ان يكون وطنا بديلا او واقعا حلميا كما في قوله من قصيدة "
صورتان تبحثان عن اطار "
أنا وأنت شقيقي
مقل طفل برئ
تحملقان في وجوه الناس
تمسح الأحزان عنهما تنفضح الشجون
و لا يخفي ما في هذه الأبيات من الإيحاء بأجواء القلق الروحي و التعبير عن تجربة
الضليع و الحرة نتيجة فقدان عناصر القوة في المجتمع التي يتصنع الطمأنينة في النفوس
، وواضح أيضا أن تصوير عذاب طفل بعينه نوع من التعبير عن العذاب المطلق . ففي
---------------------37--------------------
قصيدة "سنابل الحرية " للشاعر نفسه نجد مثل هذا التصوير لعذاب ساد ينهش في أحشاء
بريئة فيقول :
قصتي عن طفلة
خطت على خد السنابل
زرعت في مقتلي النور
و الدفء و نامت
بين أحضان المناجل
حين ناءت عن شرفة ، عانقتها
يوما بعيدا عن لظى تلك القنابل
فهذا التصوير الذي يجلو إحساس الشاعر بهشاشة الوضع الاجتماعي المستقر نسبيا
و الطمانينة الغافلة التي تنام في أحضان مارد جبار له ما يبرره في الواقع الملغم و الامر
لا يخص الجزائر الجريحة بتاريخها النضالي فحسب بل وضع عام يخص العالم العربي
و الإسلامي الذي أفاق علي وقع القنابل و معاول الهدم المادي و المعنوي التي اعملها في
كيانه المستعمر الأجنبي .
و يتخذ الشاعر الآخر احمد حمدي من أسلوب التفجير الشكلي وسيلة للتعبير عن الخواء
و فقر الدواخل فيقول في أول قصيدة من ديوان "انفجرات " مقتفيا خطا الشاعر السياب .
آه .. عيناي إليك
منذ أن قشرت خوفي
و ركبت القدر المحموم
في ليلي عرفت الحب
أطفالا
و أقواس قزح
فالقارئ الذي بوسعه أن يفهم حقيقة الإحساس بالخوف لا يسعه ان يجاري الشاعر في
تمثله هذا الخوف قشورا قد ألقي بها الشاعر جانبا ليركب عجله القدر المحموم في رحلة
المغامرة حتى اكتشف معني الحب و الأطفال و الأفراح . فهذا المركب غاية في التعقيد
و الصنعة و التعمل .
---------------------38-----------------
و في قصيدة أخري نجد مثل هذا التشكيل الانفجاري واضحا في الجمع بين الأضداد التي
لا تالف في الحس و العقل فيقول :
لى حبها قد بكيت كثيرا ع
ع
ل
يا
يا
لى حبها
راح عمري حزينا
تحجرت الذكريات
و كانت لعيني رموش
و دنياي
كانت سماء بلا سحب
و يال مطيرة
فالصورة التي يريد الشاعر أن يعتصرها من جفاف الدواخل لم يسعفه التعبير في جمع
أطرافها و تسويه أجزائها ، فقد خانه التعبير عند البيت الخامس ثم انهارت وحدة الصورة
و انسجامها في البيت الأخير، اذ لا يقع في الخيال ان يجمع الشاعر بين سماء بلا سحب
و بين ليال مطيرة . هذا فضلا علي استعماله بعض الكلمات بمعناها العامي كقوله " راح
عمري " بمعني ضاع .
و لعل الشاعرة أحلام مستغانمي كانت أكثر توفيقا من ناحية تصوير حركة نمو الأفكار
عند المرأة الجزائرية ، و التعبير الصادق الأصيل عن انفعالاتها و طموحها الى وضع
أفضل ، فالشاعرة ترفض ذهنية إقصاء المرأة ، و تحتج بشدة علي واقع الثبات و الجمود
، الواقع الذي يشبه التسلط و العبودية تقول الشاعرة :
رفضتني ..
علام اماه ؟؟
انكرت وجهي الجديد في اغتراب
لعنتني
اغلقت كل باب
علام امي زيفت لي الاحلام و الطفولة
--------------------39-------------------
صيرت مني طفلة
تبحث عن امومة
فالشاعرة بحتمية التطور و بالمطامح الجديدة للجيل الجديد الذي يريد الاعتراف بوجوده
و يسعي بجد لانتزاع حقه ، و ليست المرأة في الوضع الطارئ اقل حماسة من الرجل في
المطالبة بحقها و السعي الي انتزاع مكانتها ، بل سعيها الى اجتثاث هذا التغيير . و هنا
ينكشف الصراع القديم الجديد بين الرجل و المرأة ان صح التعبير و من من الجنسين
أولى من الآخر بإدارة دفة السفينة ، فذه الرموز التراثية تعود موظفة في هذا الخطاب
الشعري المشحون بالاحتجاج و الثورة علي واقع التسلط الرجولي في التاريخ القديم ،
و يكاد اسم شهريار و اسم شهرزاد يختصران هذا الصراع تقول الشاعرة :
و اني سامضي
لأعماق بحر بدون قرار
أحطم عاجية الشهريار
أحرر من قبضتيه الجواري
أعود بلؤلؤة من بحاري
لأني صرخت اريد الحياة
و الغريب ان ينتهي هؤلاء الشعراء نهايات متشابهة بحيث يهجرون الشعر جميعا اما الى
الكتابة الروائية كما هي حال احلام مستغانمي و اما الى الكتابة الصحفية الاحترافية
تاركين ساحة الشعر الى موجة جديد من الشباب الطامح ، الذي لم تتضح بعد معالم
تجربتهم الجديدة في الجزائر .
- دراسة تطبيقية في نص شعري لمحمد العيد ال خليفة بعنوان " يا ليل "
تمهيد: نشرع الآن في تقديم الدراسة التطبيقية على النصوص الأدبية بأنواعها المختلفة كما وعدنا
به، ونبدأ بالنص الشعري الغنائي.
-----------------40-----------------
1979 م)، شاعر - أولا: عن الشاعر وميلاد النص: قائل النص هو محمد العيد آل خليفة ( 1904
الجزائر الأول خلال تلك المرحلة من الاحتلال، وقد نشا على ثرى هذا البلد الطيب وترعرع
متنقلا بين ربوع أهله من "العين البيضاء" إلى "بسكرة" إلى "قسنطينة" إلى "الجزائر العاصمة" والى
أماكن أخرى حيث كان عضوا نشيطا في جمعية العلماء، فعاشر أبناء الشعب، وعاش معهم محنة
الاستعمار القاسية، وشاركهم أحزام الكثيرة وأفراحهم القليلة وآمالهم العريضة في تحقيق
الاستقلال، وهو الشاعر الرقيق ذو الحس المرهف، فانعكس ذلك كله في شعره الذي يشهد به
ديوانه الضخم.
من هذه التجربة القاسية العميقة التي عاشها الشاعر وعاشها معه شعبنا الأبي طيلة المحنة الاستعمارية
الطويلة نبعت هذه القصيدة، ومن ظلمة ذلك الليل الحالك انقدحت الشرارة المضيئة فيها منبثة من
الروح ومن الذات الجماعية التي لا يعدو الشاعران يكون واحدا من أفرادها ولسانا فصيحا يترجم
آلامها لذلك هذا النص ليس له مناسبة، لكنه اعمق من شعر المناسبات، وهذا ما حفزنا على
الكشف عن مستوياته الكثيرة من بنية وبنية سطحية وبنية عميقة وغير ذلك.
ثانيا: على مستوى البنية السطحية للنص: ماذا نلاحظ عند قراءتنا أو سماعنا كلمات النص وجمله
المتوالية إلى ايته؟
أول ما نلاحظه هو توزع النص في وحدات صوتية-لغوية متساوية موقعة وموزونة تدعى الأبيات،
والبيت الواحد في هذا النص ينقسم على شطرين متكافئين عروضيا هكذا:
مستفعلن فاعلاتن ______________ مستفعلن فاعلاتن
ويدعى "بحر اتث" غايته أن يضبط إطار الموسيقى الخارجية موع أبيات النص التي تتشكل منها
القصيدة، أي ما يقصد الشاعر إلى قوله ويجيد إتقان البناء الفني اللغوي وفق ذلك القالب الموسيقي
الدقيق لهذا كان الشعر ارفع من النثر لأنه مزيج من الموسيقى الخالصة والكلام الفني. وهذا الشكل
معروف في الأدب العربي منذ القديم حتى انه رد سماعنا كلمة شعر أو قصيدة، ترد على أذهاننا
وأفهامنا صور ومعان كثيرة نعرفها قبل قراءة النص، ومعنى ذلك إننا نملك معلومات مسبقة عما
يكون عليه جنس الشعر ونوعه الذاتي الغنائي كما هي الحال في النص الذي ندرسه لكونه ليس
حوارا مسرحيا ولا يشمل على قصة محبوكة وإنما هو شعر غنائي له مميزاته الخاصة ولكن ما الذي
يجري على مستوى لغة النص وفي بنائها الفني؟ نلاحظ مرة أخرى أن الخطاب بدا بنداء موجه إلى
---------------------------41---------------------
الليل "ياليل"، وهذا إلى شيء معنوي غير عاقل وليس فيه روح، ومع ذلك تكرر هذا النداء في
الأبيات ( 13،17،21،24 ) حاملا معه في كل مرة رغبة إنسانية معينة لم يرد الشاعر أن يفصح عنها
بوضوح أو يحصرها في مطلب محدد. والإنسان ليس من عاداته أن يتكلم مع الليل، فهذا النداء إذن
غير حقيقي، وإذا أردنا أن نحقق لأنفسنا فهم المقاصد الخافية لهذا الكلام والاطلاع على بعض
النوايا غير المعلنة فما علينا سوى أن نفكك هذه الشفرات أو الرموز اللغوية متجاوزين ذلك
المستوى السطحي والمعنى المعجمي البسيط إلى ما تحمله الكلمات من معان بلاغية عميقة فكلمات
النص لها ظاهر وباطن كما نرى، كما أن كل التراكيب والصور اازان وحتى الإيقاع الموسيقي
الصادر عن أجراس الحروف وأصوات الكلمات المتقابلة والمترادفة لها مثل ذلك من معنى.
ثالثا: البنية العميقة للنص: وهي تمثل مخزونات المعاني التي يحتوي عليها مضمون النص، كما نجد
فيها المقاصد الحقيقية الفنية والمعنوية البعيدة ونتساءل أولا:
بم نحس ونحن نقرأ هذا النص ونعيد فيه؟. إن الإحساس يسبق الإدراك، وإن حالة الشاعر وشعوره
أول ما يصل إلينا من خلال لهجة الشكوى والاستعطاف والإيقاع الصوتي في حروف المد الطويلة
التي تحمل معها وجع الشاعر وصوته المخنوق بالألم في جرس الحاء المفتوح والمشبع بألف الإطلاق
على امتداد القافية المتكررة، ثم ما نلبث أن نجد هذا الوجع الهادئ العميق يسري في كلمات النص
كلها مثل: (صد.. أشاح.. حراما.. سقت.. الهم.. ما وجدت.. ملت نفسي.. استوحشت..
سجن.. شوكا.. يشوكني.. أبيت.. مضني.. وسنان.. ظمآن...الخ) هكذا نشعر مع الشاعر
بوجود مشكلة عويصة وأزمة حادة تكاد تخنق أنفاسه وتتجاوز حدود ذاته إلى أن تكون أزمة أمة
وشعب بأكمله، يجاهد الشاعر في إخفائها فتغلبه عاطفة الوفاء لقومه والشفقة عليهم فينفجر
بالشكوى المرة تلو الأخرى، ويطفح الهم الذي يخفيه على كلمات كلسانه. ويمكننا معاينة هذا
الصراع الرهيب بين الشاعر وبين قوى الشر المسلط عليه وعلى الشعب الجزائري، وهي قوى
استعمارية ظالمة، في عدة نقاط نجملها في الآتي:
1.أدوار المعنى وموجات الانفعال:
إن المعنى المتشكل في النص الشعري "ياليل" مزيج من الأفكار والأحاسيس التي تنقلها اللغة المشكلة
في قالب شعري رفيع المستوى تؤثر فينا بصورها وإيحائها وتلميحها اكثر مما بصريح ألفاظها أو
-----------------42----------------
وضوح دلالاتها، لذلك يكون الخطأ محاولة نقل معنى النص الشعري إلى كلمات منثورة، وإنما
نستطيع وصف هذا الأثر المعنوي من عدة جهات.
فما هي أقسام هذا النص الشعري وأدواره في النص؟
ذكرنا أن النص من الشعر الذاتي الغنائي والدليل على ذلك إسناد الخطاب فيه إلى الذات، وهي
ذات المتكلم المفرد في اللوحة الأولى الممتدة في اثنتي عشرة بيت (تريني.. أرى.. عني.. علي.. ما
وجدت سقت…) إلى آخر هذا المقطع الشعري، وهذا الحضور الكبير جدا لذات المتكلم "أنا"
بصيغها المختلفة ليس القصد منه تضخيم الذات والإكبار من شأا كما في غرض الفخر مثلا،
لكنه حضور قوي لأجل إثبات وجود الشخصية أو الذات وتمكينها في مقابل التهديد بالمسخ
والاستئصال من الآخر المعارض لهذه الذات وهو الاستعمار الذي لم يذكره النص صراحة لأسباب
فنية تتصل بالخوف أو التجاهل أو التحقير أو الكبرياء أو غير ذلك. وقد وجد الشاعر في لفظ
"الليل" بما يحمله من مضامين سلبية ومخاوف كثيرة محتملة ما يقوم في شعوره مقام الاستعمار
بأفعاله القبيحة .
ومع البيت ( 13 ) تبدأ موجة جديدة من الانفعال المتنامي بالمقت والكره نحو ذاك "الليل"
البغيض الذي ليس سوى صورة حسية للاحتلال البغيض، وتكبر ذات المتكلم لتصير جماعة كثيرة
العدد هي الشعب والأمة التي يدل عليها الضمير "نا" :(..عنا.. لنعقد.. ما بيننا.. إنا..
إقترحنا..)، وقد استأنس الشاعر ذا الضمير الدال على الجمع والكثرة لذلك تطور الخطاب
الشعري من الشكوى في البداية إلى التهديد بالحرب في هذا المقطع "أطفئ حروبك عنا.." والى
التلويح بالانتماء الجماعي "إدلاء قومي" الذي بعث في نفس الشاعر وعاطفته شيئا من الامتعاض
والاعتزاز والتفاؤل أيضا في لفظ "صحاحا" ويعني به وجود قدر من الأصالة والعزيمة والقوة
الكامنة في الشعب لاسترجاع السيادة وتحرير الوطن من المعتدين.
وبتذكر هذا المعتدي تندفع في البيت ( 21 ) موجة جديدة من الإحساس والمعنى الذي يكون
خلاصة مركزة لما تقدم في النص الشعري من المواقف الانفعالية والمعاني الذهنية التي فجرها وجود
الاحتلال باسطا نفوذه وسطوته حتى كان ذلك الامتزاج بينه وبين الليل بكل المعاني السالبة للحياة
مثل (عاد.. داس الحمى.. استباحا.. إلى متى أنت داج..) ومقابل هذا الليل المعادل للاستعمار،
يقوم في نفس الشاعر لفظ "الفجر" ليكون معادلا للأمل في التحرر والسيادة والجهاد لأجل الحياة
الكريمة… وبذلك تكتمل حركة الانفعال في النص لأن إحساس الشاعر ومعه إحساسنا أيضا قد
----------------43---------------
تغذى بالأشياء والمعاني المذكورة في النص حول الليل والاستعمار والحرية والفجر الجديد وغير
ذلك وصار هذا الإحساس مشبعا ا، وقد تحقق مراده في النص الشعري وعلى مستوى الشعور
أيضا، وبذلك تنتهي القصيدة على نحو مناسب.
-2 الصور البيانية ووظائفها في النص
لاحظنا أن الموجات الانفعالية المكونة للنص تمثل صراع الذات أو الهوية الوطنية في مواجهة
الآخر المحتل الأجنبي، هذا الصراع هو جوهر المعنى الشعري في النص، لذلك نجده يتشكل أشكالا
عدة ويتلون بألوان بيانية وبديعية وإيقاعية كثيرة ونتساءل هنا:
ما هي طبيعة الصور واازاة التي يشكل ا الشاعر نصه انطلاقا من التراث أو من الخيال كي
يجعل منها أوعية لمعانيه وتلوينا لإحساسه ؟ النص على هذا المستوى غني جدا بالصور البلاغية التي
لا يكاد يخلو منها بيت من القصيدة، نتبين فيه توظيفا مميزا وغير مألوف لأنساق اللغة، ولكن
الأهم من هذا أن نعرف الغاية من ذلك الاستعمال غير العادي للكلمات واتساع دائرة المعنى
والإيحاء الجمالي وقوة التأثير في السامع أو القارئ، ونأخذ مثالا على ذلك من البيت الأول حيث
نجد مجازا مرسلا (لغويا) في لفظ (ليل) واستعارة في لفظ (جناحا) بالإضافة إلى صيغتي: النداء
الذي أفاد التعجب والتوبيخ والاستفهام الذي خرج إلى التمني.
يا ليل طلت جناحا متى تريني الصباحا
فقد أراد الشاعر أن يجعل قارئه في وضع يحس معه بفداحة الاحتلال الغاشم لأرضنا، وقهره لشعبنا
بقوة السلاح والتعذيب والتجويع وحرمانه من نور المعرفة والصحة...الخ فتخيل عدوه هذا في
صورة ليل جاثم على البلاد، هو ليل طويل ليس له آخر ينعدم فيه الأبصار وحرية الحركة كما في
البيئة الريفية، وكرر هذا اللفظ مرات عديدة ليفهمنا في لطف ورفق جميل أن المقصود به ليل
الاستعمار الذي هو مركب لغوي يأخذ جزءا من معناه من الظاهرة الطبيعية الإعجازية وجزءا
آخر من أفعال المستعمر الغاصب الظالم، ولم يقف خيال الشاعر عند هذا الحد بل ركب في جسم
هذا الكائن المزجي المخيل (ليل الاستعمار) جناحين عظيمين كما في الأساطير ليجعل منه وحشا
رهيبا يجثم على الوطن كله ويخنق الأنفاس، أنفاس الشعب الطيب الأعزل من كل سلاح وبفضل
هذا "الجناح" المستعار لوصف هذا الوحش الحقيقي بأفعاله (الاستعمار) استطاعت كلمات الشاعر
أن تزرع فينا إحساسا جعلنا نصدقه ونفهم عنه أن حياة الجزائريين البائسة المعذبة في ذلك الوقت
----------------44---------------
قد تحولت فعلا إلى ليل طويل مظلم بلا صباح أو ار يبصرون على ضوئه طريقهم أو يصلحون
حالهم.
إن تحليل مثل هذه الصور البيانية يكون ممتعا جدا، لكننا هنا إيثارا للاختصار نقدم جدولا يبين
تلك الصور ونوعها وبعض وظائفها فقط.
ياليل طلت جناحا مجاز واستعارة الاستغراق والتقويل
الكرى صدعني بوجهه تشبيه ضمني نقل المعنوي إلى اسد الإنساني
كأنني رهن سجن تشبيه مجمل تجسيد الإحساس (أنا سجين)
كان تحتي شوكا.. تشبيه مجمل تجسيد الإحساس بالألم (يشوكني)
ظمآن انشد ماء كناية عن موصوف إظهار درجة الحرمان
أجيل فكري كمن.. تشبيه مجمل الإيحاء بالتناقض والحيرة
انظم الشعر وردا ونرجسا و.. تشبيه بليغ الهروب من واقع مؤلم إلى المتخيل
الجميع
تأبى البلابل إلا.. استعارة (يقصد الشعراء) تحقيق للعالم الخاص الذي تخيله فنيا
أطفئ حروبك استعارة.. إظهار جرائم الاحتلال وآثاره المدمرة
قف لنعقد حلفا كناية عن موصوف البحث عن المهادنة والاستقرار
انا عليك اقترنا ك نى عن المطالب إظهار الغيظ والسخط على المستعمر المتجبر
ياليل ما فيك.. مجاز وكناية تجسيم للمعنوي، وتوسيع له إلى الكوني العام
.. إلا كواكب حيرى كناية.. إظهار درجة التيه وفقدان الزعماء والقادة
تحكي إدلاء قومي تشبيه مجمل تشبيه مجمل توبة الأحزاب الوطنية ورجالها
المتخاصمين
متى جناحك.. استعارة عوده على بدء وإحكام حلقة المعنى في النص بما بدا به
أولا وإغلاقها
تلك هي إذن هي أهم الصور البيانية الواردة في النص، ويمكن لقرائه أن يتوسعوا في التأويل
والتحليل بما يجعل كل واحد منهم يكشف ما لا يحصى من الإيحاء والمعنى الذي يربط به هو
بوصفه قارئا متميزا بتجاربه ومتفاعلا مع احتمالات المعاني المتولدة من السياق، وهذه الحرية عند
----------------45---------------
الملتقى ضرورة لإحداث الأثر الجمالي في نفسه بكونه قارئا يبدع فهمه الخاص وينتج النص من
جديد هذا من ناحية المقروئية والتلقي.
أما من ناحية ترتيب العناصر والصور البيانية، فنلاحظ سيادة فن التشبيه بعامة بست صور ثم
الكناية بخمس صور فالاستعارة بأربع صور وهذا يعني أن النص يتحرك في منطقة الوضوح ويحتفظ
باستقلال الأشياء في مخيلته ويحترم حدودها المرسومة لها في العالم الخارجي الموضوعي كما يقضي
عمود الشعر العربي قديما، فلم يتدخل للعبث بتلك الحدود في مساحة ضيقة لأنه في كل من التشبيه
والكناية وااز يجوز الاحتفاظ بالدلالة الوضعية مع استحسان المعنى البلاغي فيها أو الدلالات
الأخرى ( 2،3،4 ...الخ) كما نلاحظ أن المواد المستعملة تتوافق مع ما هو مألوف في صور الشعر
العربي القديم (الجناح.. الوجه أو الصدود.. السجن.. الشوك.. الظمأ.. الورد.. البلابل.. الخ)
لذلك، لا يجد قارئ هذا النص أية صعوبة لتحقيق التواصل مع مقاصد الشاعر الحقيقية وفهم
نواياه، وليس في حاجة إلى تكلف الجهد الكبير لمعرفة أن "الليل" مثلا جاء رمزا لتصوير الاحتلال
وبشاعة ظلمه، وربما كان جمال هذا النص قد جاء من هذا القصد النبيل ومما يعرفه القارئ مقدما
عن فضاء الشعر العربي مبنى ومعنى.
-3 الأنساق اللغوية والبديعية ودلالاتها في النص
يعد النص الأدبي بعامة، ولاسيما الشعر، ممارسة إبداعية يظهر فيها الجهد والاختيار واضحين من
خلال التعديل المستمر الذي يدخله المبدع على أنظمة النصوص السابقة في التراث فيجعل اللغة في
حركية دائمة ونمو مطرد مع احترام الأصول والقواعد التي بدوا يستحيل فهم النص الجديد. وفي
هذه الأنساق اللغوية الجديدة أو المعدلة تتمركز شخصية الشاعر وموهبته وجمال أسلوبه.
فما هي تلك الأنساق المميزة في نصنا وما دلالاا الخاصة؟ بالعودة إلى هيكل النص أو بنيته
الكبرى التي ذكرنا أا تمثل صراع الذات (الأنا) في مواجهة الآخر (هو) الذي ليس سوى ظلام
الاستعمار وليل الكوارث على أبناء الجزائر. لأجل أداء هذا المعنى فنيا اصطنع النص الشعري نمطين
من البناء اللغوي : بناء التضاد وبناء الترادف وكلاهما جاء في شكل تقابلي تناظري يعكس حقيقة
تقابل العدو (هو) مع الشعب (الأنا أو نحن)، ونصف هذه الأنساق كالآتي:
أ-تقابل وتضاد (طباق أو مقابلة) .
يا ليل طلت.. .. تريني الصباح طباق
-----------------46--------------
أمسى.. حراما ..كان مباحا مقابلة
...بالهم ..انشراحا طباق
...سجن ..سراحا طباق
ظمآن.. ..قراحا طباق
مرضى.. .. صحاحا طباق
جناحك يطوى ..طلت جنحا طباق السلب
نلاحظ في هذا النموذج النسقي تمركز الشخصية المعارضة أو الشريرة بأفعالها (الاحتلال) في مطالع
الأبيات لتحتل بذلك مواقع الصدارة تتحرش بالشخصية الشاعرة رمز الشعب وتسبب لها تحريضا
وألما ومضايقات لا تنتهي في مواجهة مكشوفة وحادة غير رحيمة لأا هذه القوة الظالمة الغاشمة
تريد قهر الذات الشاعرة صحبة الحق البشري وتسعى إلى إقصائها وحرماا من حقها قي أرضها،
لذلك نجد هذه الذات المظلومة المهضومة تنزاح على مستوى النص –كما في الواقع- فتحتل
أعجاز الأبيات حيث تثبت وتقاوم بإصرار وتكاد تتمركز في ألفاظ القافية خاصة متشبثة ويتها
ومطالبها الكبيرة المشروعة (صباح.. مباح.. انشراح.. تتاح.. قراح.. صحاح.. بطاح..
جناح...الخ) وهذه الملفوظات المشكلة لإيقاع القافية هي ما يزود النص بمعناه العميق الصحيح
حتى لو جاءت الأخيرة في الرتبة، (وقد تسمى القصيدة قافية)، فعاقبة هذا الصراع غير المتكافئ بين
الذات والآخر الأجنبي ينتهي لا محالة لصالح الذات المؤكد في ايات الأبيات. ولجرس الروي الحاء
المشبعة بحركة المد المفتوح دلالات أخرى على إخراج الألم وخدمة الإيقاع الموسيقي.
ب-نقس تراد في وتذييل يحيل على أفعال الآخر المحتل:
الكرى صدعني... وأشاح
رهن سجن... لم ارج سراحا
أسرفت برد... وظلمة ورياحا
أطفئ حروبك... لا تزدها لقاحا
لست ادري ..ا ونى أم كساحا
عاد داس الحمى واستباحا
أنت داج تغشى الربا والبطاحا
نلاحظ هنا في كل هذه الأنساق وما يتبعها من إلحاق أا تمثل سطوة المستعمر المعارض للرغبةالوطنية والقامع للذات الشاعرة التي تجسد تلك الرغبات وذاك الطموح إلى الحرية والعافية
-----------------47------------
والاستقلال والازدهار...الخ، فالاحتلال وهو لفظ غير مصرح به لكننا نجده حاضرا بقوة في
معسكره الرهيب (الليل، الصدود، السجن، البرد، الحروب، التجهيل، لست ادري، الكساح،
العوان)
وهذا المعسكر الطاغي من شأنه أن يحطم كل شيء جميل ونافع في الحياة والوطن ويدنس الوجود.
والدنس لفظ ديني يفيد معنى تشويه العقيدة وتدمير الروح.
ج-نسق تراد في تذليل يحيل على الذات الفردية والجماعية:
ياليل طلت... متى تريني الصباحا
الكرى صدعني ..أشاح
ضقت بالهم ..ما وجدت انشراحا
ملت.. نفسي واستوحشت
تحتي شوك يشوكني أو رماح (تشوكني)
انظم الشعر وردا ونرجسا وأقداحا
..البلابل ترنم وصداح
إنا عليك اقترحنا اقتراحا
نفسي إلى الفجر تاقت الفجر لاح
نلاحظ أن هذا النسق يحيل على الذات منها بالقوة والقهر، فهي لا نفتأ تطالب الغالب باسترداده،
وتتوسل إلى ذلك بشتى الوسائل والصيغ التعبيرية ومنها النسق الترادفي الذي جاء لغرض الكشف
عن فداحة المأساة الوطنية على مستوى حياة الفرد – الشاعر والجماعة- الشعب، وهذه الأنساق
المذيلة بالتطويل والإلحاق نجدها تعبر تارة عن الشكوى من معاناة طويلة قاسية وتعبر تارة أخرى
عن إنفساح الأمل والثقة بالنصر وترقب الفجر والصباح والانشراح والصداح والأقداح... وهذا
يعني أن الصراع مستمر في الواقع ومتجدد ليرغم ظهور قوة المعتدي فالذات الشاعرة مصرة على
المقاومة وثابتة في النص لم تفقد صواا ولم تستنفذ كل وسائل الدفاع عن حقها وهويتها ومن
بينها هذا الشعر واللغة العربية التي كتب ا.
-4 الإيقاع والعاطفة في النص:
هذا الجمع بين الإيقاع والعاطفة مقصود، لان الإيقاع حركة للنفس تنقلها موسيقى الأبيات
وأجراس الحروف وأصوات الكلمات بفضل انتظامها في نسق أو انساق معلومة، وكيفيات مميزة
-------------------48---------------
في التلفظ ا عند الإلقاء أو الإسناد (القراءة) فالإيقاع متضمن في الشعر والنثر –كالسجع
والازدواج مثلا- إلا انه في الشعر اظهر بالنظر إلى توفر هذا الإطار العروضي العام الذي ذكرناه
في بداية التحليل.
وتتنوع الإيقاعات في الشعر بتنوع أحوال الشاعر العاطفية من إيقاع راقص، ومأساوي، وثوري..
ونحوها، وثمة ما يربط بينها وبين موسيقى الأفكار التي رأيناها في الألوان البديعية، لان الفكر
يبحث دائما عن التماثل والتقابل أو التضاد والتنافر.
وبالعودة إلى النص نلاحظ سرعة جريان الإيقاع ونلاحظ النغمات الشجية في الجمل القصيرة
المتوالية تعبيرا عن العاطفة المأزومة المكروبة اجس الاستعمار الذي قمعها وحد من حريتهاوحرمها من تحقيق مطالبها وطموحها، فجاءت جمل النص قصيرة ومشحونة إلى أقصى حد بالغيظ
والألم، وهي ما أن تبلغ حد القافية في النهايات المؤقتة حتى تنفجر في حرف الحاء المطلق الممدود
بصوت مفتوح عن آخره كأنه صرخة حادة لإخراج الألم المحتبس في النفس بإخراج الهواء من
الحلق "حا" للتخفيف المؤقت من الهم الجاثم (ليل الاستعمار)، ثم تندفع غصة أخرى من حرف الألم
مع جمل البيت الذي يلي السابق بتشكيلة جديدة من إيقاعات أخرى قصيرة حادة مشفوعة أما بياء
المتكلم الذي يفيد انكسار النفس وانغلاقها على حزا: (تريني.. صدعني.. أمسى علي.. فراشي..
نفسي.. كأنني تحتي.. يشوكني...الخ) وهي صيغ تتحد مع المدلول السلبي للمضامين المعنوية
فتكون ما يعادل نغمة الأنين أو البكاء المكبوت إلا في حالات قليلة تمثل حلم الذات الشاعرة
حينئذ وأما مشفوعة بأصوات لين تسمح هي الأخرى بتقطيع الألم والحد من أثره الضار على
النفس مثل: (أبيت.. وسنان.. أرجو.. المنى.. ظمآن.. ماء.. أجيل.. تأبى.. حروبك...الخ) وهذهالأصوات والإيقاعات على اختلافها تنقل توتر مشاعر الذات وسرعة دقات القلب وحدة الانفعال
لذي هو تارة يهدا قليلا وتارة أخرى يتصاعد بعنف مع ثورة النفس غضبها على المستعمر (الليل)
فتكثر الكلمات الممدودة والأصوات اللينة وتختلط معها بعض الأصوات الانفجار التي تنقل عاطفة
الغضب والسخط مثل (أطفئ حروبك.. استوحشت.. لم ارج.. انشد ماء.. أسرفت.. لا تزدها..
فما أجبت...الخ) وهي جمل قصيرة جدا كما نرى ومتقطعة تتوزع وحداا الإيقاعية في ثنايا النص
لتنفث فيه الروح الرافضة المتمردة والمتحدية لجبروت الاستعمار.
لذلك لا يوجد نوع واحد من العاطفة في النص بل فيه عدة عواطف –الشكوى، الاستعطاف أو
الرجاء، السخط، الثورة، التبرم وغيرها- وبتعبير آخر النص فيه عاطفة لكنها ليست على حالة
---------------49---------------
واحدة مستقرة، بل هي عاطفة متوترة متغيرة تكون متهادنة حينا، وثائرة حينا آخر وحالمة أحيانا
ومتوارية تماما في بعض الأحيان، فهي ترسم في النص ما يشبه خطوطا متعرجة فيها ذرى
ومنخفضات وانكسارات كثيرة غير مستقرة، فهل نسأل بعد هذا إن كانت عاطفة الشاعر صادقة
أم كاذبة؟
-5 على صعيد التناص:
نجد نص محمد العيد يتقاطع مع عدد لا حصر له من نصوص التراث العربي الإسلامي بما فيه من
شعر ووصايا وخطب وأمثال وقصص وقرآن كريم وأحاديث نبوية وغير ذلك، بحيث يؤدي
اشتباك هذا النص الشعري بكل تلك النصوص السابقة تعالقه معها إلى اتساع دائرة المعنى وتعدد
مستويات الفهم والتأويل، فهذا أمر حتمي في الأدب لأن شاعرنا لا يملك أن يفرغ الكلمات التي
استعملها في نصه من مضامينها المعنوية المتراكمة في الاستعمال السابق ليصب فيها المعنى الذييرده هو فقط، ولهذا سيؤدي هذا التراكم المعنى في اللفظ الواحد إلى تعدد الفهم، وهو شيء محمود
في الأدب، وبه ترتفع درجة الإعلامية ويزداد النص غنى بمضمونه المكثف المضغوط المعنى.
لقد حصل هذا الاشتباك والتقاطع أو التناص في عدة مواضع، حصل في البيت ( 1) باستعارة لفظ
"الجناح" إذ نجد في القران الكريم "اخفض لهما جناح الذل"، وفي لفظي "الليل والصباح" تقاطع مع
أبيات امرئ القيس "الليل... وما الإصباح" وفي البيت ( 3) تناص مع قاعدة فقهية (الحلال
والحرام)، وفي ( 6،5،7 ) تقاطع وتناص مع أبيات النابغة الذبياني "كأن العاذلات فرشن لي هراسا
( به يعلى فراشي ويقشب" وفي البيت ( 9) تناص مع صور الصحراء في الشعر الجاهلي وفي ( 10
أيضا في لفظ لقداح، وفي ( 11،12 ) تقاطع مع الشعر الرومانسي وفي ( 14 ) تناص مع أبيات زهير في
الحرب وحديثة عنها وعن ناقة ثمود وفي ( 15،16 ) تناص مع الأحاديث السياسية ولغة الأحزاب وفي
18،17،19 ) عودة إلى التقاطع والاشتباك مع معلقة امرئ القيس في وصفه نجوم الليل... وهكذا... )
إن هذا التناص ضروري وحتمي من اجل غنى هذا النص من ناحية وربطه بالتراث الذي ينتمي إليه
وهو التراث العربي ربطا فنيا محكما، وضروري من ناحية أخرى وهي أن تلك الإشارات
والاشتباكات المتقاطعة مع التراث يسمح لنا بتذكره كي يكون حاضرا في وعينا وثقافتنا فنعيشه
-------------50--------------
ونجدد فهمنا له بروح الحاضر حتى كأن كل تلك الآثار الأدبية والأزمنة المتطاولة تتجمع خبراا في
وعينا عند ظروف اللحظة الراهنة.
-6 الحيز والزمن في النص:
إن تمركز التجربة الشعرية التي عبر عنها النص في عنصر الليل ذا المعنى الواسع غير المحدود والموجه
أساسا تكشف عيوب الاستعمار وفضح جرائمه المموهة المستورة الشبيهة بما يحصل في الليل
الدامس، -إن هذا- ينقلنا إلى الحديث عن الزمن الشعري والحيز الشعري أيضا في النص فالشاعر
–والأديب عامة- لا يتعامل مع حقائق العالم والأشياء بالمفهوم المتعارف عليه عند سائر الناس، بليكون تعامله اللغوي هذا خاصا ومميزا لما فيه من مسحة فنية وجمالية متأتية من شحنات الأحاسيس
والتلوين أو الأصباغ الذاتية الخاصة التي يصبغ ا ألفاظه فيعطي الأشياء شكلا مغايرا وطعما مختلفا
عن المعتاد وعلى هذا يكون زمن النص الشعري هنا مختلفا تماما عن الزمن التقويمي الطبيعي
المعروف في لفظ "الليل ورديفه النهار" فليل النص ممتد بلا اية أو ار يعقبه، ونحن نظل نجهل
هذه النهاية التي يترقبها النص بشوق كبير ولكنها لم تأت فنحس بسطوة هذا الليل وعنفه
واستبداده على الذات الشاعرة حتى صار يتناسل في كل أبيات النص تقريبا عبر تكوينات لغوية
ونسيج تعبيري مكثف يصدم وعينا –نحن القراء- فيدخلنا في عالم من الوحدة والوحشة والرهبة
الممتدة بلا انقطاع، (الليل.. الإمساك.. الحرام.. الهم.. الاستوحاش.. السجن.. الشكوك..
الرماح.. البرد.. الظلمة..) فزمن النص –إذن- هو زمن نفسي خاص بالحالة الشعورية المعبر عنها،
ولا يخضع في شيء من طوله ومعناه إلى ما يعرفه الناس في الليل الطبيعي، إذ العلاقة بينهما عبارة
عن قرينة لفظية فقط.
وكذلك زمن النهار المرتقب في النص نعرفه بالإحساس فقط ونعلم يقينا انه يرتبط بجملة من
الأحلام والأفراح والآمال العريضة، ولكنه زمن غائب، وغيابه هذا جعل ذات الشاعر تتألم لفقده
وتتشوق لرؤيته، فالنهار موجود في وعيها ولكنه لم يتحقق عمليا لذلك يلجا النص إلى استحضاره
في الحلم فقط (ورد.. نرجس.. أقداح.. البلابل.. ترنم.. الفجر.. لاح.. الصباح..)، وهذه طريقة
تعويضية معروفة في علم النفس تمت بأداة سحرية وفنية وهي الحلم.
وكذلك شان الحيز أو المكان في النص يختلف عن الأمكنة المعاناة التي نراها في الواقع، ولفظ
"الحيز" انسب للمعنى الشعري والأدبي من "المكان" فهذا الحيز الشعري يتصف بعدم التعيين التام
بفضل شاعريته الخيالية وتنوعه الشديد من ناحية، ولكونه أيضا حيزا خرافيا متخيلا بحيث يندرج
---------------51---------------
ضمن تشكله كل الأصقاع المعتمة التي لا تنفذ فيها الرؤية، في باطن الأرض وفي الأدغال
والكهوف والمحيطات وفي أجواء الفضاء البعيدة لأن في هذه الأحياز كلها شيئا من معنى الليل ومن
خفيته الرهيبة الغامضة التي تكاد تخنق أنفاس الكائن الحي بمجرد أن ينتقل إليها في الخيال. فالصباح
المغيب قهرا يدخل ضمن هذا الحيز وكذلك الشوك والساحات الموحشة.. والرماح الحادة..
والسجن المطبق.. والرياح العاصفات.. والحروب الدائرة.. والماء الذي يسيل زلالا ولكنه في مكان
مجهول.. والكواكب الحيارى في مواقعها من الكون اللاائي.. والمرضى الذين يمكن أن نتخيلهم
على مضاجعهم يتوجعون.. وحتى في القروح وأماكن الوجع في أجسادهم.. كل ذلك يدخلضمن الحيز الشعري المثير في نص محمد العيد وليس الجمال الفني في هذا النص سوى أن نطلق
العنان لتخيلاتنا بارتياد هذه الأماكن وغيرها مما يوحي به جو النص ولغته.
ولما كان الحيز الشعري في النص المتمثل في "الليل" يلاحق الذات الشاعرة فيطردها إلى المنافي
البعيدة الموحشة إمعانا منه في تعذيبها –كما تقدم- فان هذه الذات تتشبث بالمقابل في حقها
المشروع أن يكون لها حيز ثابت معلوم هو ركنها الأصيل الجميل فترسمه على هذا النحو الشعري
الحالم، وطن الشعراء والبلابل
وانظم الشعر وردا ونرجسا وأقداحا
يأبى البلابل إلا ترنما وصداحا
لكن هذا الحيز غير حقيقي ومؤقت اتخذه النص محطة استراحة ظرفية والتقاط الأنفاس لأجل هجوم
جديد على المحتلين "الليل" الذين حرموه من التمتع بالحيز المستقر بعد أن حوله المعتدي الأثيم من
حيز شعري جميل إلى أرض الحروب والدمار واستباحة كل شيء فيها
ياليل كم فيك عاد داس الحمى وإسباحا
والتعبير عن الوطن بلفظ "الحمى" من أوثق الروابط التي تحقق لشاعرنا تواصلا وتناصا مع التراث
العربي حيث يفيد "الحمى" كل ما يشمل مجال الحماية والتحريم بوصفه ملكية خاصة لا تستباح
ومقدسا لا ينتهك.
-7 أسلوب النص:
--------------52--------------
الأسلوب لا ينحصر في طرق الإسناد والصور البيانية والصيغ البديعية فقط، وإنما يشمل كافة
الجوانب اللغوية والتعبيرية الخاصة المتصلة بإظهار العلاقة الاندماجية التي تكون بين شخصية الشاعر
والأديب المبدع الفنان وبين طريقته المميزة جدا التي يعبر ا في فنه وأدبه، وهي علاقة متينة تبلغ
حد التوحد، فيقال حينئذ: هذا النص لفلان حتى قبل أن يعرف القائل، فليس الأسلوب سوى
الأديب التي سال ا قلمه، وروحه التي تتمثل في كلماته المنضدة لان "الأسلوب هو الرجل" كما
قال أحدهم.
ومحمد العيد في هذه القصيدة يبدو مشرفا على فنه من بناء شامخ باذخ، هو تراث الشعر العربي
العتيد الذي يراه شاعرنا من زاوية النبل والكمال، لذلك تجب المحافظة عليه، والحاجة إلى التجاوز
عنده تكون بتخير افضل تراكيبه، والانتقاء من أجود صوره ومواقفه، والاهتداء إلى طرق مسالكه،
لهذا السبب لا يبتكر النص طريقة جديدة في تراكيبه وتأليف صوره. ولكنه يحيي الصور الجيدة في
التراث والمواقف الواضحة الصحيحة فيتخير اللفظ الشريف والسبك المتين فيجعلها جزءا من
أسلوبه: فالليل الطويل المد لهم بالأحزان يبينه الجناح العظيم الرهيب الرحيب كجناح العنقاء أو
الغول يخنق ضحيته في صمت تحته. والألم الشديد نحس ا ونراها من خلال الفراش الشوكي المعد
للتعذيب لا للنوم والراحة مثله مثل الرماح الحادة النافذة في الجسد، وكذلك الربط بين حالة
الامتناع والخيبة وبين الظمآن فاقد الماء الذي يؤم سرابا.. وهكذا سائر الصور التي درسناها
يتخيرها الشاعر فيلتقط جزئياا مما يتأثر عن التراث العربي ويعيد تشكيلها وفق طريقته وحاجة فنه
مما يشكل أسلوبه المميز ذا الاختيار وهذا الوضوح والأناقة والإيجاز. نستطيع –إذن- بعد
استقصاء الأمثلة –كما سبق- أن نصف أسلوب محمد العيد في النص بأنه نسج فني مستقطر منكل الأساليب الشعرية العربية الراقية قديما أيام ازدهاره في العصر العباسي، فيه ديباجة شعر
البحتري وحلاوة لفظة، وغوص أبي تمام على المعاني وحسن بديعه، واستقصاء ابن الرومي للمعنى
وتفريعه.. كل ذلك يدخل في أسلوب شاعرنا بنسب متفاوتة، ومحمد العيد مع ذلك لم يدع لنفسه
يوما مترله أحد هؤلاء، ولا تجرأ أن يطلق على فنه لفظ "مدرسة"، وانما هو عضو في تيار شعري
كبير هو شعر الأحياء في العصر الحديث الذي امتاز بطوابع أسلوبية خاصة كالعناية بنقاء اللفظ
وحلاوة الجرس الموسيقى ووضوح المقاصد ونبل المعنى.
8.المغزى الإنساني:
---------------53--------------
إن النص الشعري والأدبي الجيد بعامة لابد أن يكون ذا مغزى إنساني عميق رغم انه ليس وثيقة
تاريخية ولا خطبة اجتماعية أو سياسية ولا هو شهادة إثبات للحالة النفسية الذاتية، ولكنه نص فني
جمالي في أساسه وتدخل في تركيبة عناصر كثيرة من هذه المعارف كلها ومن غيرها، ويزيد عليها
بكونه طاقة من التخزين الإيحائي والجمالي المشع، والتي لا توجد في هذه المعارف.
فهل نقول بعد هذا أن نص محمد العيد يعد من الشعر الوطني التحرري، أو من الشعر السياسي، أو
من الشعر الإصلاحي، أو شعر الشكوى والمعاناة، أو شعر الوصف...؟
كل هذه المعاني موجودة في النص الأول لان تلك هي طبيعة النصوص الأدبية الإبداعية وخدمة
الأغراض والقيم الإنسانية الخالدة، تكون بعد إشباع الحاسة الجمالية التي هي نتيجة التشكيل الفني
للغة.
---------------------54-------------------
بوركت استاذ على المجهودات جعلها الله في ميزان حسناتك
ردحذفالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته استاذ التعليم الابتدائي هل يمتحن في جميع المواد جزاكم الله خيرا
ردحذفيمتحن في اربعة مواد في يوم واحد
حذفاللغة العربية / الفرنسية / تكنولوجيا الاعلام و الاتصال / مواد علمية : ريضايات و علوم طبيعية
شكرا جزيلا.ادعو لي بالتوفيق
ردحذفيا آخر لطيف، أنا حقا يتمتع بقراءة هذا المنصب. لا بد لي من إضافة شيء جديد يتعلق هذا المنصب الذي هو
ردحذفزراعة الشعر في دبي زيارة والحصول على مزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع.