الدولة الايوبية
مقدمة
شكَّلت الدولة الأيوبية مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي، واضطلعت بمهام عظيمة وجسيمة في حياة الأمة؛ وكان أمراؤها على قدر المسئولية حينًا، وعلى غير ذلك أحيانًا أخرى.
تبدأ قصة الأيوبيين من خلال الدولة الزنكية التي نشئوا من خلالها، وعاشوا في خدمتها يخدمون الإسلام حينًا، حتى قادتهم الأقدار إلى تولِّي قيادة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين.
لقد شكلت أحداث التاريخ الزنكي دولة إسلامية في مرحلة من أشد مراحل التاريخ الإسلامي حرجًا, إذ تعرض فيها العالم الإسلامي في الشرق الأدنى لهجوم أوروبي غربي عُرِفَ باسم الحروب الصليبية، في الوقت الذي كان فيه المسلمون يمرون بحالٍ من التفكك, وأصبح من الواضح أنهم كانوا في أَمَسِّ الحاجة إلى رجل قوي ينقذهم من حال الفرقة والانقسام, ويوحدهم تحت رايته, ويجمع طاقاتهم قبل أن ينطلق بهم في خُطًا ثابتة نحو الجهاد.
وقد اتصفت الحياة السياسية في الشرق الإسلامي قبل مجيء الصليبيين باضطراب داخلي، شمل كافة الدولة والإمارات الإسلامية؛ ففي الشرق خضعت الخلافة العباسية لسيطرة السلاجقة الذين تدهور نفوذهم بعد ذلك وتفككت دولتهم, ودَبَّ النزاع بين أمرائهم حول الاستئثار بالنفوذ والسلطان.
وكانت الدولة العُبَيْدِيّة (الفاطمية) في مصر تمر بمراحل شيخوختها؛ فينازع أمراؤُها خلفاءَها, وتجاذبت القوتان السلجوقية والفاطمية بلاد الشام دون أن تتمكن أي منها من تثبيت نفوذها، وسيطرتها عليها بصورة دائمة أو فعالة.
نتج عن هذا الوضع المضطرب مناخ مناسب للأمراء المحليين في إقليم الجزيرة وبلاد الشام, فاستقل كُلٌّ بما تحت يده يعالج مشكلاته وشئونه الخاصة, وخضع للجانب الذي ارتبطت به مصلحته, وراح يعمل على توسيع أملاكه - إلى ما وراء حدود إمارته - على حساب جيرانه الأمراء الآخرين في ظل ضعف الرابطة السياسية بين هذه الكيانات؛ فتوزعت السلطة نتيجة ذلك بين عدد من الأمراء الطامحين, وتركزت إماراتهم في الموصل, وأنطاكية, والرُّها, وحلب ودمشق, وبيت المقدس وغيرها، فأضحى لكل واحدة من هذه الوحدات السياسية – الاجتماعية, كيانها الخاص وذاتيتها المتميزة إلى حد كبير.
وصل الصليبيون في ظل هذه الظروف القلقة إلى العالم الإسلامي, واندلعت نيران الحروب الصليبية في الجزيرة وبلاد الشام, ونجحوا في تأسيس أربع إمارات لاتينية في قلب العالم الإسلامي هي: الرُّها, وأنطاكية, وبيت المقدس, وطرابلس, مستغلين تدهور نفوذ السلاجقة, وعجز الخلافة العباسية, والدولة الفاطمية, وتَشَتُّت الإمارات الإسلامية.
عماد الدين زنكي.. القائد الصلب
أدرك ما آلت إليه أوضاع العالم الإسلامي في الشرق من تشتت وتدهور, فأخذ على عاتقه القيام بهذه المهمة، فأسس دولة له في الموصل وحلب, ثم رفع راية الجهاد ضد الصليبيين لكنه اصطدم بحالة التمزق السياسي التي كانت سائدة في المنطقة؛ فرأى ضرورة تجميع القوى الإسلامية، وحشد طاقاتها قبل القيام بأية خطوة إيجابية لمواجهة العدوان الصليبي، فنهض يعمل على ضم هذه القوى المشتتة.
وبعد أن خطا خطوات واسعة في هذا السبيل ونجح في ضم شمالي بلاد الشام إلى إمارة الموصل نهض ليتصدى للصليبيين, ونجح في تحقيق أهم إنجازاته التي بدأ بها صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين في المنطقة, وهي استعادته إمارة الرها من أيديهم. وكان لهذا النصر أهميته حيث أثبت قدرة المسلمين على مجابهة الخطر الصليبي، بالإضافة إلى أنه أَمَّنَ حرية الاتصال بين الموصل وحلب
نور الدين محمود..
ثم برز نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي كشخصية فذة؛ بدأ من حيث انتهى والده, وبذل جهدًا مضنيًا في سبيل إثارة الأمة, وبَعْثِ رُوحِ الجهاد والتضحية بين جميع أفرادها في مناطق الشرق الإسلامي, وقد ورث القسم الغربي من الدولة الزنكية مع المشكلتين الكبيرتين اللتين واجهتهما, والمتمثلتين في أتابكة دمشق الذين وقفوا حجر عثرة في وجه عماد الدين زنكي لتحقيق وحدة المسلمين في بلاد الشام, بالإضافة إلى الإمارات الصليبية المنتشرة في هذه البلاد.
وبعد أن نجح نور الدين محمود في توحيد قسمي بلاد الشام الإسلامية: الشمالي المتمثل بحلب, والجنوبي المتمثل بدمشق وسط هيمنة فعلية على الموصل, انطلق يجاهد الصليبيين، ويتصدى لتوسعاتهم على حساب المسلمين, ولعل أهم إنجازاته - إلى جانب تحقيق الوحدة الإسلامية, وجهاد الصليبيين - إسقاط الخلافة الفاطمية في مصر, وإعادة هذا البلد إلى حظيرة الخلافة العباسية والمذهب السني
وقد خلف نور الدين محمود بعد وفاته في عام (569 هـ= 1174 م) ابنه الملك الصالح إسماعيل الذي لم يكن على مستوى الأحداث بفعل صغر سنه, وافتقاره إلى الخبرة والتجربة.
وبرز من جهة أخرى صلاح الدين الأيوبي كَوَارِثٍ طبيعيٍّ، استطاع أن يملأ الفراغ القيادي الذي ظهر بعد وفاة نور الدين محمود, وبوفاة الملك الصالح إسماعيل عام (577 هـ= 1181 م) زال هذا القسم من الدولة الزنكية, ودخل في حُكْمِ صلاح الدين بعد صراع دامٍ مع دولة الموصل.
أصل الأيوبيين :
أمّا عن أصول صلاح الدين الأيوبي، فإنَّ الأيوبيين ينتسبون إلى أيوب بن شادي من بلدة (دوين) الواقعة عند آخر حدود أذربيجان بالقرب من تفليس في أرمينية, وجميع أهل ذلك البلد من الأكراد.
غير أن بعض الأيوبيين حاول أن يبتعد عن الأصل الكردي, وأن يلتصق بالدم العربي بعامة, وبنسل بني أمية بخاصة, وأنكروا نسبتهم إلى الأكراد, وقالوا: "إنما نحن عرب؛ نزلنا عند الأكراد, وتزوجنا منهم".
لكن صلاح الدين أنكر هذا النسب العربي, وقال: "ليس لهذا الأصل أصلٌ" ادعاء.. ولم يكن العادل الأيوبي أقل إنكارًا من أخيه صلاح الدين لهذا الأمر.. ثم انتقلت الأسرة من (دوين) في بداية القرن السادس الهجري= الثاني عشر الميلادي, حين غادر شادي مع ابنيه: نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه المنطقة إلى تكريت؛ حيث عينه شحنتها مجاهد الدين بَهْرُوز حاكمًا عليها؛ نظرًا لصلات الصداقة التي تربطهما, ولمَّا تُوُفِّيَ خلفه ابنه نجم الدين أيوب.
صلاح الدين يتولى وزارة مصر
بعد وفاة نور الدين محمود, اضطربت الأوضاع في بلاد الشام بفعل الخلافات بين الأمراء؛ فاستغل الصليبيون ذلك, وهاجموا الأراضي الإسلامية؛ مما استدعى تدخل صلاح الدين, وحتى يعطي تدخله مبررًا شرعيًّا, ويحافظ على ما سوف يحققه من إنجازات, كتب إلى الخليفة العباسي, يصور له أوضاع بلاد الشام السياسية المضطربة, وتَوَثُّبَ الصليبيين عندما هاجموا الإسكندرية, وأوضح له سبب ضم اليمن, بأنه لضرب المهدي المبتدع, وأعقب كل ذلك برجائه من الخليفة أن يُنْعِمَ عليه بتقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام, وكل ما تشتمل عليه ولاية نور الدين محمود, وكل ما يفتحه اللهُ للدولة على يديه؛ فاستجاب الخليفة لمطالبه.
وعلى الرغم مما توافر له من القوة التي فاقت قوة نور الدين محمود، كان صلاح الدين بحاجة إلى مساندة الخلافة في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين, وبخاصة الزنكيين؛ لذلك كان يُطْلِعَ الخلافة على تحركاته ومنجزاته ليكسب تأييدها, وحتى لا يُتَّهَم بأنه يقاتل من أجل مطامع شخصية؛ فيخسر مساندة الخلافة له, ولكي لا يُتَّهَمَ بقتال المسلمين, وترك قتال الصليبيين.
ولكن في عهد الخليفة أبي العباس أحمد بن المستضيء شعر هذا بالقلق من تحركات صلاح الدين، وخشي أن يمتد نفوذه حتى عاصمة الخلافة؛ لذا اكتفى بتأييده ظاهريًّا، وبمساعدات قليلة حتى لا يزيده قوة
عندما استقر صلاح الدين في منصب الوزارة في مصر أعد نفسه لإحداث تغيير جذري وشامل داخل مصر في كافة المجالات, وكانت مهمته هي التصدي للمشكلات التي أثارها مركزه، فرغم أن التناقض الظاهر من وجود وزير سني لدى خليفة فاطمي لم يكن بالوضع الجديد؛ لأنه طيلة قرن تقريبًا كان هناك وزراء سنيون على مراحل متقطعة في مصر, لكن حركة الجهاد الإسلامي التي قادها نور الدين محمود تحت راية دولة الخلافة العباسية, بالإضافة إلى قيام وحدة فَعَّالة بين بلاد الشام ومصر تقف في وجه الصليبيين، حَتَّمت على نور الدين محمود وبالتالي صلاح الدين الالتزام بإعادة مصر إلى حظيرة الولاء للعباسيين, ولكن الضرورة دعته إلى تمهيد السبيل أمام التغيير رغم إلحاح نور الدين محمود وعتاب الخليفة العباسي؛ لأنه أدرك أن التغيير السريع لا بد أن يولد ردَّ فعلٍ فوري معاكس لا يمكن تدارك نتائجه
وضَمِنَت الخطوات التمهيدية العسكرية والاقتصادية والدينية التي نفذها إحكام قبضته على البلاد. ومع نهاية عام 566 هـ= 1171م وضحت أهداف صلاح الدين بحكم عقيدته السنية في إسقاط الدولة الفاطمية في مصر, وإقامة الخطبة للعباسيين.
أهداف صلاح الدين الإصلاحية
لم تكد تمضي أيامٌ على قطع الخطبة للفاطميين حتى توفي العاضد آخر الحكام الفاطميين, ليلة (العاشر من المحرم = 13 من أيلول)؛ فأمر صلاح الدين بإرسال الكتب إلى البلاد بوفاته, وإقامة الخطبة رسميًّا للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله, وبذلك يكون صلاح الدين قد وضع نهاية للدولة الفاطمية في مصر، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها عادت فيها هذه البلاد إلى العالم الإسلامي السُّني؛ لتؤدي تحت قيادة الأيوبيين دورًا مهمًّا في توحيد الجبهة الإسلامية ومواجهة الصليبيين، كما قام صلاح الدين بجهود كبيرة في إصلاح الأحوال الاجتماعية في مصر؛ فاهتم ببناء المنشآت كالمستشفيات، وإصلاح المرافق والطرق، والإنفاق على المرضى والمحتاجين، كما عمل على توفير الحماية لمصر من خلال بناء قلعة صلاح الدين، لصد الهجمات الآتية من قِبَل الصحراء.
ورغم ذلك رأى صلاح الدين أنه بحاجة إلى عمل خارجي لتحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: توسيع رقعة الدولة الإسلامية.
الثاني: تحصين إنجازاته التي حققها في مصر.
الثالث: تأمين حدود بلاده حتى لا يؤخذ على غِرَّة.
وأسفرت جهوده عن ضم المغرب الأدنى وبلاد النوبة واليمن
أمَّا في الشام فقد أثارت وفاة نور الدين محمود مشكلة تقسيم دولته الواسعة بين ورثته؛ مما هدد الوحدة الإسلامية، وكادت هذه المشكلة أن تعود بالمسلمين إلى حالة التمزق والانقسام التي كانوا عليها قبل أن يبدأ عماد الدين زنكي جهوده لوضع قاعدة صلبة لتوحيد الجبهة الإسلامية والتصدي للصليبيين، ولم يكن بين رجال الأسرة الزنكية من يصلح أن يكون خلفًا لنور الدين محمود الذي لم يترك سوى ابنٍ طفلٍ في الحادية عشرة من عمره اسمه إسماعيل, وابنة صغيرة, وزوجة هي عصمة الدين خاتون.
اتفق الأمراء في دمشق بعد مناقشات مستفيضة على تنصيب الصالح إسماعيل ملكًا خَلَفًَا لوالده, وعيَّنوا شمس الدين محمد بن عبد الملك, المعروف بابن المقدم قائدًا للجيش, وأتابكًا له, وكتبوا إلى ولاة الأطراف بإقامة الخُطبة باسمه, وبخاصة صلاح الدين في مصر.
صلاح الدين يضم الشام لملكه :
وقد جاءت وفاة نور الدين محمود (عام 569هـ= 1174م) لتزيل الصعوبات الناجمة عن كون صلاح الدين نائبًا للأمير الزنكي في دمشق وحاكمًا فعليًّا لمصر, كما أنها في الحقيقة أعطت صلاح الدين مبررات مقنعة للدخول في مجال السياسة في بلاد الشام؛ حيث إن الصالح إسماعيل كان قاصرًا؛ لذلك قدم نفسه بوصفه النائب القوي الذي يمكن للصالح إسماعيل الاعتماد عليه.
والواقع أن صلاح الدين تَطَلَّعَ إلى ضم بلاد الشام إلى مصر بعد وفاة نور الدين محمود, بهدف استمرار السياسة التي بدأها عماد الدين زنكي, وجرى عليها ابنُه نور الدين محمود, والتي تقضي بتوحيد كلمة المسلمين, والقضاء على الصليبيين.
وهكذا ضمَّ صلاح الدين دمشق وقلعتها؛ من أجل حماية الصالح إسماعيل من خطر الصليبيين, والأمراء الطامعين
الاستعداد لمواجهة الصليبين
ثم أخذ صلاح الدين ينفذ سياسته, في إعادة بناء الجبهة الإسلامية المتحدة بحيث تمتد من شمالي العراق إلى بلاد الشام فمصر؛ ليتمكن - بعد ذلك - من البدء في حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين, والمسلمون أشد ما يكونون قوةً وتماسكًا, ثم تابع تقدمه باتجاه الشمال؛ وجرت مفاوضات مع أمراء الزنكيين أسفرت عن أن يكون لصلاح الدين ما بيده من بلاد الشام, وللحلفاء الزنكيين ما بأيديهم, وأن تُضافَ إلى أملاكه بعض الأراضي الواقعة شمالي (حَمَاة) مثل: المَعَرَّة, وكفرطاب, وبعد توقيع الاتفاق رحل صلاح الدين عن حلب.
قام صلاح الدين بعد ذلك بضم حلب وآمد وسنجار وغيرها من المدن والحصون؛ في سبيله لإتمام الوحدة التي يستطيع بها مواجهة الصليبيين، وتحرير بيت المقدس.
في ذات الوقت كانت هناك محاولتان للتخلص من صلاح الدين قام بها طائفة الحشيشية بالتعاون مع الصليبيين؛ رغبةً من الحشيشية في الانتقام منه لإسقاطه الدولة العبيدية المنحرفة التي يدينون بدينها، وخوفًا – في نفس الوقت - من الصليبيين من أن يُتم صلاح الدين وحدة مصر والشام، ثم يفرغ لمواجهتهم.
العلاقة مع الصليبيين :
لقد مَرَّتِ العلاقات الأيوبية – الصليبية في عهد صلاح الدين بمرحلتين كبيرتين, امتدت المرحلة الأولى من عام (570هـ= 1174م) إلى عام (582هـ= 1186م). وفي هذه المرحلة لم يكن صلاح الدين متفرغًا لجهاد الصليبيين؛ إذ ليس من المعقول أن يوجه اهتمامه الكامل للجهاد ضدهم، وخلفه مجموعة من الأمراء المسلمين الذين يُشَكِّلُون تهديدًا محتملاً في الشمال والشرق؛ لذلك وَجَّهَ اهتمامه وجهوده نحو توحيد الجبهة الإسلامية.
وقد تخلل هذه المرحلة عقد المعاهدات, مثل المعاهدة التي عقدها مع الملك بلدوين الرابع في عام (576 هـ=1180م), والمعاهدة مع ريموند الثالث صاحب طرابلس في عام (581 هـ= 1185م). وتُعَدُّ هذه المعاهدات من العوامل التي ساعدته على بَثِّ التفرقة بين صفوف الصليبيين, وإضعاف قوتهم.
وامتدت المرحلة الثانية من عام (582هـ= 1186م) إلى عام ( 588هـ= 1192م)، وكان صلاح الدين قد فَرَغَ من توحيد الجبهة الإسلامية؛ فانصرف بكل طاقاته إلى الجهاد, وحقَّقَ الانتصارات الضخمة التي خَلَّدَت ذِكرَه في التاريخ ومن هذه الانتصارات الانتصار العظيم في حطين عام (583هـ= 1187م)..
كان من الأفضل للصليبيين -وقد كانوا في حالة صراعٍ داخليٍّ- أن يلتزموا بشروط الهدنة التي عقدوها مع المسلمين, وهي الهدنة التي ضمنت حماية القوافل التجارية بالتنقل بِحُرِّية وأمنٍ ما بين القاهرة ودمشق.
ولكن الأحداث كانت تجري بسرعة في مصلحة صلاح الدين, وهو يستغلها؛ إذ إن تحالفه مع (ريموند الثالث) أثار غضب (رينولد شاتيون) الذي كان في هدنة مع صلاح الدين، فقام بنقض الهدنة في (عام 582هـ= أواخر عام 1186م), حين أوقف قافلة تجارية كبيرة مَارَّةً بأرض الكرك, في طريقها من مصر إلى بلاد الشام, واستولى عليها؛ فقتل حراسها, وأسر بعض الجند, كما قبض على من في القافلة من تجار وعائلات, وحملهم إلى حصن الكرك.
خيانة العهد كانت البداية :
لم تلبث أنباء الاعتداء أن وصلت إلى مسامع صلاح الدين, ولحرصه على احترام المعاهدة, أرسل إلى رينولد شاتيون ينكر عليه هذا العمل, ويتهدده إن لم يطلق سراح الأسرى ويعيد الأموال, غير أن صاحب الكرك رفض استقبال رسله.
وعندما وجد صلاح الدين إعراضًا من جانب رينولد أرسل إلى الملك جاي لوزينان شاكيًا, ومطالبًا بالنصح لرينولد بإعادة الأسرى والأموال؛ فلبَّى جاي دعوة صلاح الدين، ولكنه أخفق في الضغط على رينولد.
والواقع أن صلاح الدين لم يستطع أن يكظم غيظه أمام رفض رينولد وعَجْز جاي؛ فأقسم أن ينتقم من رينولد, بل إنه "نذر دمه, وأعطى اللهَ عهدًا إن ظفر به أن يستبيح مهجته"[16], وما حدث من نقض الهدنة على هذا الشكل جعل الحرب أمرًا لا مَفَرَّ منه.
لقد اختار الصليبيون صفورية قُرب عكا مكانًا لتجمعهم, وحملوا معهم صليب الصلبوت تَبَرُّكًا, وعندما علم صلاح الدين أن ريموند الثالث نقض الهدنة والاتفاقية المعقودة معه، غادر الأردن مسرعًا إلى أن وصل إلى عشترا في حوران؛ فاجتمع بابنه الأفضل, وشاهد جيوشه البالغة اثني عشر ألفًا من الفرسان، بالإضافة إلى المشاة والمتطوعة مجتمعةً؛ فعبَّأها لخوض المعركة, ثم توجه إلى طبرية يوم الجمعة (17 من ربيع الآخر عام 583هـ= 26 من حزيران عام 1187م), وكان يقصد بوقعاته أيام الجُمَع لا سيما أوقات الصلاة؛ تبركًا بدعاء الخطباء على المنابر؛ "فربما كانت أقرب إلى الإجابة"
الطريق إلى بيت المقدس
وأضحى الموقف العسكري شديد الخطورة على مملكة بيت المقدس, وإمارتي طرابلس وأنطاكية؛ إذ لم يبقَ أمامه - بعد أن دمر أعداءه - إلا أن يفتح حصون الأرض المقدسة, وبخاصة أنه نتج عن خسارة الصليبيين, الذين ألقوا بكل ثقلهم في معركة حطين, أن وقع عدد كبير من أمرائهم وقوادهم وفرسانهم في الأسر, وعلى رأسهم الملك جاي لوزينان, حتى لم يبق لديهم من يصلح للقيادة. يُضَافُ إلى ذلك أن الغرب الأوروبي لم ينتبه إلى الخطر قبل عام (583 هـ= 1187م)؛ ولذا فإن احتمال مجيء حملة صليبية سوف يستغرق زمنًا؛ لذلك شرع صلاح الدين يفتح المدن والحصون الصليبية واحدة بعد أخرى, فتحًا سريعًا ومتواصلاً, مُرَكِّزًا ضرباته المباشرة على الموانئ المهمة.
والواقع أن عملية الفتح لم تكن حربًا بالمعنى العسكري المفهوم للكلمة, بل أشبه بنزهة عسكرية؛ إذ كانت المقاومة ضعيفة, مما سَهَّل للمسلمين الانتشار والتقدم, فكانت المدينة أو القلعة تسارع إلى الاستسلام لمجرد وصول المسلمين إليها, وذلك لعدم وجود قوة تدافع عنها, وإذا قاومت فإن مقاومتها تبدو ضئيلة. وقد قام صلاح الدين في هذا الوقت بفتح قلعة طبرية، وفتح عكا، ومدن الجليل، والمدن الساحلية[4]. والواقع أنه لم ينقضِ شهر جُمَادَى الآخرة حتى لم يَبْقَ للنصارى جنوبي طرابلس سوى صور وعسقلان وغزة, وبضع قلاعٍ معزولة، بالإضافة إلى بيت المقدس.
ويبدو أن صلاح الدين تخلى عن حذره هذه المرة أيضًا, حين منح الصليبيين - بعد أن فتح المدن والحصون المشار إليها - حرية البقاء فيها أو الخروج منها، فذهب معظمهم إلى صور؛ ذلك أنه سرعان ما أدرك أن أمر هذه المدينة غدا صعبًا فتركها, وآثر الانصراف إلى غيرها؛ فقام بفتح عسقلان.
فتح بيت المقدس
بعد أن فرغ صلاح الدين من فتح عسقلان والمدن المجاورة, تطلع إلى تحقيق هدفه الذي طالما جال بخاطره, وعمل له, وهو تحرير بيت المقدس تمهيدًا لطرد الصليبيين من المنطقة؛ فأخذ يستعد لتنفيذ هذه الخطوة, وحتى يقطع الطريق على احتمال هجوم صليبي بحري على الساحل الشامي أثناء حصاره لبيت المقدس؛ أرسل إلى قائد أسطوله في مصر حسام الدين لؤلؤ أن يخرج بأسطوله من مصر لحماية الشواطئ, وقطع الطريق على مراكب الصليبيين والاستيلاء عليها.
وبذلك يكون قد ضمن حماية مؤخرة جيشه البري، وأقفل حلقة الحصار على المدينة المقدسة؛ ومن ثَمَّ دعا أهلَها إلى إرسال وفد للتباحث في الشروط التي بمقتضاها تستسلم المدينة.
ويبدو أن سكان بيت المقدس قد أدركوا بعد تساقط المدن والمعاقل الداخلية والساحلية بيد صلاح الدين, أنهم أضحوا محاصرين فعلاً؛ فأرسلوا إليه وفدًا اجتمع به أمام عسقلان, فعرض عليهم تسليم المدينة بالشروط نفسها التي استسلمت بها بقية المدن والمعاقل الصليبية, أي يؤمنهم على أرواحهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم, وأن يسمح لمن يشاء بالخروج من المدينة سالمًا, ولكن سكان بيت المقدس رفضوا أن يسلموا المدينة، عندئِذٍ أقسم صلاح الدين أنه سوف ينالها بحد السيف.
ثم كرر صلاح الدين عرضه على سكان بيت المقدس؛ وذلك رغبة منه في عدم استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها وقدسيتها عند المسلمين والنصارى على السواء, لكنهم أصروا على موقفهم الرافض؛ عندئذٍ قرر صلاح الدين اقتحام المدينة عنوة.
واجتمع داخل المدينة ما بلغ ستين ألفًا بين فارس وراجل سوى النساء والأطفال, بل إن الصليبيين قاوموا الجيش الأيوبي الزاحف, واستطاعوا قتل أحد الأمراء وجماعة ممن كانوا معه.
وقد وصل صلاح الدين إلى المدينة في (15 من رجب عام 583 هـ= 20 من سبتمبر عام 1187م) وعسكر أمام أسوارها الشمالية, والشمالية الغربية, وشرع في مهاجمتها لكنه جُوبِه باستحكامات هذا الجانب المتينة المشحونة بالمقاتلين، بالإضافة إلى أشعة الشمس التي كانت تواجه عيون قواته فحجبت عنهم الرؤية الضرورية للقتال حتى بعد الظهر؛ لذلك طاف حول المدينة مدة خمسة أيام يبحث عن مكان يصلح للجيش أن يعسكر فيه إلى أن عثر على موضع في الجانب الشمالي نحو العمود وكنيسة صهيون, حيث الأسوار أقل متانة, فانتقل إلى هذه الناحية في (20 من رجب = 25 من أيلول), وحين حَلَّ الليلُ بدأ بنصب المجانيق.
وتراشق الطرفان بقذائف المجانيق، وقاتل أهل بيت المقدس بحميَّة وكذلك المسلمون، حيث كان كل فريق يرى ذلك دِينًا عليه, وحتمًا واجبًا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني.
ولما رأى الصليبيون شدة القتال, وشعروا بأنهم أشرفوا على الهلاك؛ عقدوا اجتماعًا للتشاور، فاتفقوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا وفدًا إلى صلاح الدين من أجل هذه الغاية, واشترطوا احترام مَن في المدينة من الصليبيين, والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق لصلاح الدين أن عرضها عليهم من قَبْلُ, لكنه رفض قبولها الآن؛ لأنه أوشك أن يفتح المدينة عَنْوَةً, وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوءًا, وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم, ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم, ولكن صلاح الدين سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف, ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.
في ذكرى الإسراء تم الفتح
وتجاه هذا الإصرار, وبعد أن استشار مجلس حربه في الموقف, تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير, وخمسة دنانير عن المرأة, ودينارين عن الطفل, ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر, واشترط أن يُدْفَعَ الفداءُ المفروضُ في مدى أربعين يومًا, ومن لم يُؤَدِّ فداءَه خلال تلك المدة يصبحْ مملوكًا, لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق صلاحُ الدين أن يدفع باليان مبلغًا إجماليًّا قدره ثلاثون ألف دينارٍ عن ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم.
ودخل صلاح الدين المدينة يوم الجمعة (27 من رجب= 2 من تشرين الأول), وشاءت الظروف أن يصادف ذلك اليوم في التاريخ الهجري، ذكرى ليلة الإسراء والمعراج.
أصداء فتح بيت المقدس تهز أوروبا
ما كاد القتال ينتهي في حطين, وتتحقق خسارة الصليبيين, حتى أسرعت الرسل إلى غرب أوروبا لإعلام ملوكها وأمرائها بما آلت إليه أوضاع الصليبيين في الشرق, ولم يلبث أن اقتفى أثرهم رسلٌ آخرون عقب فتح بيت المقدس.
والواقع أن تلك الخسارة وهذا الفتح أحدثا ردَّ فعل عنيف في المجتمع الغربي الذي ذُعِرَ لنبأ الكارثتين, واعتقد النصارى في الغرب أنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في الاستجابة للاستغاثات المتكررة التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السنوات الأخيرة.
وأدرك من اجتمع في (صور) من الصليبيين أنه ما لم تصلهم نجدة من الغرب, فإن فرص الاحتفاظ (بصور) ستتضاءل بعد أن ضاع كل أمل في استعادة المناطق التي فقدوها, ولم يلبث (كونراد دي مونتفيرات) أن أرسل (جوسياس) رئيس أساقفة (صور) إلى غرب أوروبا في منتصف عام (583 هـ= أواخر صيف عام 1187م)؛ ليطلب من البابا وملوك أوروبا وأمرائها النجدة العاجلة.
تنازع أيوبي على السلطة
ترك صلاح الدين بعد وفاته في عام (589 هـ= 1193م) دولة واسعة الأرجاء, وسبعة عشر ولدًا وبنتًا واحدة.
وكان صلاح الدين - رحمه الله – قد وزَّع خلال حياته السياسية البلاد الواقعة تحت سيطرته على أفراد عائلته؛ مانحًا إياهم سلطات فعلية لممارسة السيادة؛ فتقاسم هؤلاء التركة الصلاحية بعد وفاته في ظل ما حدث من المؤامرات والحروب بينهم, إذ أن كلاًّ منهم يطمع في أن يكون نصيبه يضارع نصيب جاره أو يفوقه, بالإضافة إلى تَزَعُّمِ العائلة الأيوبية.
وقد أخذت الجبهة الإسلامية في التداعي بعد وفاة صلاح الدين عام (589 هـ= 1193م)، ولم تلبث أن نشبت حرب الوراثة بين أبناء البيت الأيوبي, فاتفق أمراء الشام على ألا يعترفوا بسيادة العزيز عثمان صاحب مصر الذي اتصف بالطموح السياسي, وزعم أن له السيادة عليهم جميعًا, وكان هذا الرفض نابعًا من أهمية دور دمشق في توجيه السياسة الأيوبية, غير أن الأفضل عليّ صاحب دمشق اتصف بسوء السيرة؛ فقد احتجب عن الرعية, واشتغل بلهوه مما أدى إلى كراهية الناس له؛ فقد وضع ثقته في وزيره ضياء الدين بن الأثير، فأساء التصرف في أمور الرعية, وخالف نهج والده في الحكم؛ فأقصى أمراء والده ومستشاريه بتأثير من وزيره؛ فهرب هؤلاء إلى القاهرة مستنجدين بالعزيز عثمان الذي رفعهم وأعزهم، فالتفوا من حوله, واعترفوا به زعيمًا على الأيوبيين.
العادل يعيد توحيد الدولة بنفس الخطأ
مَرَّتْ الدولة الأيوبية خلال تلك الفترة بعدة تطورات سريعة انتهت بتوحيدها مرة أخرى تحت زعامة العادل أخي صلاح الدين بعد صراعات طويلة بين أبناء صلاح الدين فيما بينهم، وبينهم من جهة وبين عمهم العادل من جهة أخرى.
وهكذا أعاد العادل توحيد الدولة الأيوبية تحت سلطانه, ولكنه ارتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه صلاح الدين عندما وَزَّعَ إرثه بين أولاده وإخوته؛ مما أَدَّى إلى إضعاف الأيوبيين؛ لأن هذا التوزيع سَبَّبَ التنافر والتحاسد بين الإخوة, وأعاد من جديد المأساة التي حدثت بعد وفاة صلاح الدين
نجم الدين أيوب
نقفز خمسين سنة من الصراع، ونصل إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي (الصالح نجم الدين أيوب)،أو (الملك الصالح)، والذي يُعَدُّ من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين.
لقد تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدَّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر، وحدثت بينهم مناوشات وحروب، وبلغ الأمر مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!! وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!
وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر فأعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة، وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفًا إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين؛ ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فَرُّوا من قَبلُ من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها, وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنودًا مرتزقة بمعنى الكلمة؛ بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال؛ فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعُرِفَت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642هجرية، وانتصر فيها الملك الصالح انتصارًا باهرًا، وقُتِلَ من الصليبيين أعدادٌ كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأُسِرَت مجموعةٌ كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أُسِرَت مجموعةٌ من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة, واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرَّرَ المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرِّرَ بيتُ المقدسِ نهائيًّا، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبدًا لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16مننوفمبر سنة 1917 ميلادية، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفى كمال أتاتورك.
ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحَّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحَرَّرَ بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.
المماليك البحرية
غير أنه حدث تطور خطير جدًّا في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة، وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتفِ هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المُحَنَّك ركن الدين بيبرس.
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله، فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وكانت هذه الطائفة هي (المماليك).
وقد زاد عدد المماليك الصالحية (نسبة إلى الملك الصالح)، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، حتى بنى لنفسه قصرًا على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تمامًا، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر؛ ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية (بالمماليك البحرية)؛ لأنهم يسكنون بجوار البحر.
وهكذا وطَّد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه (فارس الدين أقطاي)، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية.
الانتصار في معركة المنصورة الكبيرة
لقد كتمت شجرة الدرِّ خبر وفات الملك الصالح ، وقالت: إن الأطباء منعوا زيارته. وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف (بحصن كيفا) في تركيا الآن، وكان اسمه (توران شاه بن نجم الدين أيوب)، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأَنَّ عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح, وكان اسمه (فخر الدين يوسف) على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة.
ومع كل احتياطات شجرة الدرِّ إلا أن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، مِمَّا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتًا في منطقة المنصورة.
ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرِّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب. وأقرت شجرة الدرِّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد لِلِّقاء.
وفي اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هجرية دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا.
وبعد أن وصل توران شاه إلى المنصورة في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأُعْلِنَ رسميًّا وفاةُ الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.
بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين، وبعد خطة بارعة استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة (فارسكور)في أوائل المحرم سنة 648هجرية، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تمامًا، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسِيقَ الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار (فخر الدين إبراهيم ابن لقمان).
ووُضِعَت شروطٌ قاسيةٌ على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها حالاً ونصفها مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات.
وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأُطْلِقَ سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت، نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن.
نهاية الدولة الأيوبية
اتفقت شجرة الدرِّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل (توران شاه)، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 من المحرم سنة 648 هجرية، أي بعد سبعين يومًا فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر، وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي (يحكم)بل لكي (يُدفَن)!!
وهكذا بمقتل (توران شاه)انتهى حكم الأيوبيين تمامًا في مصر، وبذلك أُغْلِقَتْ صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية, ووَحَّدَ في هذه الفترة مصر والشام, وتَزَعَّمَ الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقَّقَ عليهم انتصاراتٍ هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الآخِر سنة 583 هجرية، وفَتْحِ بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق, وأجزاء من تركيا, وأجزاء من ليبيا والنوبة، وحُصِرَ الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
لكن ـ سبحان الله ـ بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تَقَلَّصَ دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتِنَ المسلمون بالدولة الكبيرة، وكَثُرَتِ الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جَرَّاءِ هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتَفَكَّكَتِ الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلامٍ وسبابٍ وشقاقٍ فقط،بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأَدَّى ذلك إلى الفُرْقَة الشديدة، والتشرذم المقيت، بل كان يصل أحيانًا الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جَرَّاء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كانت الدنيا همه فَرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
صدقت ـ والله ـ يا رسول الله.
لقد جعل صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفًا واحدًا هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا - فعلاً - وهي راغمة، أمَّا معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تمامًا، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيرًا، ومنهم من مات طريدًا، ومنهم من مات حبيسًا. كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله
وهكذا انتهى حكم الأيوبيين لمصر، وبدأت حقبة جديدة في ظل دولة أخرى هي دولة المماليك.
أسباب سقوط الدولة الأيوبية
إن أسباب سقوط الدولة الأيوبية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله في أمور الحكم وغيرها، فقد وقع الظلم على الأفراد وتورط بعض السلاطين في الترف وحدث بينهم نزاع عظيم سفكت فيه الدماء وأدى ذلك إلى زوالهم، فعندما يغيب شرع الله في أمور الحكم ـ كما حدث في الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين ـ يجلب للأفراد والدولة تعاسة وضنكاً في الدنيا وأن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، وأن الفتن تظل تتوالى تترى على الناس حتى تمس جميع شئون حياتهم، قال تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" * النور ، آية : 63 * . لقد كان في إبتعاد سلاطين الأيوبيين بعد وفاة صلاح الدين عن تحكيم الشرع في نزاعاتهم وخلافاتهم آثار على أفراد البيت الأيوبي والدولة، فقد أصيبوا بالقلق والجزع والخوف، والشقاق والخلاف ونزع منهم الأمن وأصبحوا في الضنك من الحياة، إن هلاك الأمم وسقوط الدول وزوال الحضارات لا يحدث عبثاً في حركة التاريخ، بل نتيجة لممارسة هذه الأسرة الحاكمة أو الدولة، أو الأمة الظلم والانحراف وبعد أن يعطوا الفرصة الكافية حتى تحق عليهم الكلمة، فيدفعوا ثمن إنحرافهم، وإجرامهم وطغيانهم وفسقهم والآيات صريحة في ذلك، فالله إذا أنعم على دولة نعمة أياً كانت فهو لا يسلبها حتى يكفر بها أصحابها، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" * الأنفال ، آية : 53 * ، والآيات في هذا كثيرة سواء ما يخص الفرد أو الأمة، بل أن القرآن الكريم ليذكر أن بعض ما يصيب الأمم والأفراد من استدراج حين يمهلهم الله تعالى وتواتيهم الدنيا، وتفتح عليها خيراتها فينسوا مهمتهم وما خلقوا له، بل ينسون المنعم جل جلاله وينسون ما عندهم لجهدهم وذكائهم، وقد يفلسفون الأمر فيقولون: لو لم تكن نستحق هذه النعم لما منحت لنا، وفي هؤلاء يقول الله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا لهم ابواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" * الأنعام ، آية : 44 ـ 45 * ، لقد نسى هؤلاء أن الله يمنح خيرات الدنيا لمن يطلبها ويجد فيها، قال تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها" * آل عمران ، آية : 45 * . ولكن هناك من يريد الآخرة بحق ويسعى لذلك فهو الفائز "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * وكلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" * الإسراء ، آيات : 18 ـ 20 * . وقال تعالى: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون" * النحل ، آية : 112 ـ 113 * . ولنستمع لهذه الدعوة الكريمة "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" * هود ، آية : 52 * . وهناك آيات كثيرة تحاول قطع الطريق على بعض المتفلسفين من أهل الكتاب "ي أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" * المائدة ، آية : 19 * ، فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة مسئولة عما يصدر عنها، ولا يتحمل أحد جريرة غيره "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون" * البقرة ، آية : 134 * . المهم أن الله تعالى لا يحجب نعمة عن أحد، بل يوزعها على المؤمن والكافر، ثم يراقب تصرف الكل فيها، فمن طغى وظلم، ومن كفر بها واستعملها استعمالاً سيئاً فإن العقاب العادل سينزل به في الوقت المناسب، وقد يطول ذلك العهد قبل نزول العقاب ولكنه يكون في الطريق، وبعد هذا وذلك فإنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" * البقرة ، آية : 286 * ، ومثل هذا في الأمم والمجتمعات وعلى مستوى الأفراد فإن الله خلق النصوص ملهماً إياها طريق الخير والشر، يقول تعالى: "ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" * الشمس ، آيات : 7 ـ 10 * . وقال "وهديناه النجدين" * البلد ، آية : 10 * ، ومن الملاحظ في دراسة أسباب سقوط الدول والحضارات بأنها لا تسقط بسبب واحد كما لا تقوم بسبب واحد، بل بتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدة أسباب لتدهورها وسقوطها، بعضها يعمل ببطء، بينما يعمل البعض بسرعة أكبر، ولا تسقط الدولة والحضارة بضربة واحدة، بل بتضافر جملة من العوامل، وهذا ما حدث للدولة الأيوبية التي زالت من الوجود في مصر عام 648هـ
وأهم هذه الأسباب:
1 ـ توقف منهج التجديد الإصلاحي
كان صلاح الدين رحمه الله رجل المرحلة، وجدت فيه صفات عظيمة، ساعده على ذلك الأجواء التي هيأها نور الدينت محمود من حبه للجهاد والعلم وتقريب العلماء، وإشاعة العدل، وسرى هذا في الأمراء والوزراء، ولكن المعضلة الرئيسية التي بقيت هي أن التجديد لم يتحول إلى مؤسسات راسخة إلى إتجاه عام في الدولة حتى لا ينقطع بوفاة القائد أو المؤسس[4] وذلك يرجع إلى أمور منها:
أ ـ نقص الفقه الحركي الذي وجه نشاطات المدارس الإصلاحية:
فإن مدارس الإصلاح في هذا العصر ركزت نشاطاتها على تحقيق عنصر "الإخلاص" في العمل ، أي أنها ركزت على التربية أكثر من الاستراتيجية، ولذلك لم تفرز * فقه الحكمة * اللازم لتنظيم مؤسسات السياسة والإدارة والاقتصاد وتنظيم مسئوليات العاملين فيها وأداهم وحسن إستثمار الموارد البشرية والمادية بما يناسب حاجات المكان والزمان، وإنما اكتفت بـ* فقه * الآباء الذي يركز على * المظهر الديني للقيادة * دون * المظهر الاجتماعي * ، وصار شيوخها ومتعلموها يسلكون طريق * الزهو * وينتمون إلى مذهب من المذاهب الفقهية التقليدية في آن واحد، ولهذا يوصف الواحد منهم بأنه ـ مثلاً * قادري السلوك * * وشافعي المذهب * ، كذلك لم تطرق هذه المدارس ميادين * الفقه * المتعلق بالمظهر الكوني للعبادة والمؤدي إلى تطور العلوم الطبيعية، وتسخير تطبيقاتها في ميادين الحضارة المادية المختلفة، وهذا النقص في الفقه السياسي والإداري جعل المنجزات التي حققها جيل صلاح الدين تعتمد على الشخصيات أكثر من فاعلية المؤسسات، فلما غابت الشخصيات القيادية على مسرح الحياة برز تأثير العامل الثاني، أي أثر العصبيات الأسرية والقبلية التي عادت لتوجه مؤسسات الحكم والإدارة بما فيها مدارس الإصلاح نفسها، وهذا التطور السلبي حقق إفراز ظواهر غير إيجابية منها:
ـ حين لم يحد جيل الأبناء فقهاً سياسياً وإدارياً ينظم عملية تعيين الحاكم ومؤسسات الحكم والإدارة إرتد إلى تقاليد العصبية الأسرية والقبلية وروابط الدم التي تعتبر الحكم وقيادة المؤسسات التربوية والعلمية ميراثاً يرثه الأبناء عن الآباء، الأمر الذي أدَّى إلى تفكك الدولة وإنقسامها حيث تقاسم الأبناء ما وحدَّه جيل الآباء، وأداروه طبقاً لتقاليد العصبيات الأسرية التي سبقت جيل صلاح الدين والتي كانت تعتبر أراضي الدولة ومدنها وسكانها إقطاعات يتصرف بها الحكام ويتبادلونها بالبيع والشراء وصفقات الحرب والصلح.
ـ أدى النقص في الفقه السياسي والإداري إلى إنفجار الفتن بين الملوك وأمراء الجيش من ذلك ما حدث بين الملك الكامل وبين عماد الدين أحمد بن المشطوب الكردي الهكاري الذي يصفه ابن خلكان بأنه كان صلاح الدين أطعمه وهو شاب إقطاع نابلس إكراماً لوالده سيف الدين أبو الهيجاء المشطوب الهكاري الذي كان من كبار أمراء الجيش الصلاحي وقادته، فقد اتفق عماد الدين بن المشطوب مع الأكراد الهكارية على خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الفايز، ولكن المحاولة لم تنجح ودب الاضطراب في معسكر الجيش الذي كان في مواجهة الصليبيين وانسحب عماد الدين إلى قلعة حران حيث بقي فيها حتى وفاته عام 610هـ، والخلاصة أن الجدب في الفقه السياسي والإداري أفرز ـ بعد جيل صلاح الدين ـ قيادات وإدارات متسلطة فردية عملت على أن تحكم الأمة بقيم القوة فوق الشريعة، والفردية بدل العمل الجماعي، والتسلط بدل الشورى والإرتجال بدل التخطيط.
ـ قامت الدولة الأيوبية على تبني فكرة الجهاد وتحرر ديار المسلمين من الغزو الصليبي، وكانت التغيير العملي على مدى إصالة فكرة الجهاد الإسلامي وعن مدى عمق هذه الفكرة في نفوس المسلمين في كل من مصر والشام وقد انعكس هذا العمق وتلك الأصالة في الصفحات المشرقة التي سجلها بجهاده صلاح الدين، إذا انتقلنا إلى الصورة التي كانت لها في سنواتها الأولى وهذا يعني أنها قد أصبحت في وادي والفكرة التي قامت عليها في وادٍ آخر، ولو قدر واستمرت الدولة الأيوبية بالصورة التي كانت عليها في سنواتها الأخيرة لكان معنى ذلك نهاية أو سقوط فكرة الجهاد الإسلامي وترك الساحة للصليبيين يرسمون مستقبلها ومقدرات شعوبها كما يريدون، وإذن فإن إختفاء الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك مقامها كان التعبير العملي لرفض زوال فكرة الجهاد، ونخلص من هذا إلى القول بأن إختفاء الدولة الأيوبية، وقيام دولة المماليك مقامها كان رفضاً عملياً لسقوط فكرة الجهاد، كما كان أيضاً تأكيداً عملياً لقوة هذه الفكرة وضرورة إستمرارها حتى تحقق أهدافها كاملة، وخير للأجيال أن تستمر الفكرة حتى ولو على حساب سقوط الدولة والرجال مهما كانت درجة التعاطف مع هذه الدول وهؤلاء الرجال.
ب ـ ومن الظواهر السلبية: التي ساهمت في توقف حركة التجديد والإصلاح، تسلل قيم العصبية الأسرية إلى مدارس الإصلاح نفسها، إذ يستفاد مما كتبه مؤرخو تلك الفترة كابن الوردي وابن المستوفي، إن الأبناء والأحفاد تسلموا مشيخات هذه المدارس بعد وفاة المصلحين الآباء دون أن يكون لأولئك الأبناء والأحفاد المؤهلات العلمية والدينية والأخلاقية، الأمر الذي أحال مدارس الإصلاح إلى إقطاعات دينية، وعصبيات مذهبية، وأدى إلى إنصراف النابهين المثقفين من صفوفوها وإجتماع العامة فيما عرف باسم * الطرق الصوفية * الني إشتقت اسماءها من اسماء الآباء المؤسسين، كالطريقة القادرية والطريقة البيانيه والطريقة الرفاعية التي راحت تركز على الطقوس والأشكال بدل التربية والعلوم والأعمال.
2 ـ الظلم
إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان يعجل في موته، بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبإنتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها، مما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها، وإضمحلالها من خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر له، أي الذي قدره الله بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل أو من عوامل الهلاك كالظلم الذي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضي مدة محددة يعلمها ال، قال تعالى:" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" * الأعراف: آية: 34 * . قال الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية* ولكل أمة أجل * أي لكل أمة من الأمم الهالكة أجل، أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا، أي أننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله فلا يمكن لأحد أن يحدد بالأيام ولا بالسنين وهو محدد عند الله تعالى:" ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد* وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادهم غير تتبيت* وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه اليم شديد" * هود: آية: 100 ـ 102 * . إن الآية الكريمة تبين أن عذاب الله ليس مقتصراً على من تقدم من الأمم الظالمة بل أن سنته تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصراً بأولئك الظلمة السابقين، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال:" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" * هود: آية: 102 * فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت إلى هلاكهم فلا بد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد، فلآية تحذر من خطورة الظلم.إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم فهذه الدولة مع كفرها تبقى، إذ ليس من سنته إهلاك الدولة بكفرها ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم[،تزول قال تعالى:" وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" * هود: آية: 117 * قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره: إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك والمعنى: أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، يعامل بعضهم على الصلاح وعدم الفساد، وفي تفسير القرطبي رحمه الله قوله * بظلم * أي بشرك وكفر * وأهلها مصلحون * أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، ومعنى الآية: أن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى يضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط، قال أبن تيمية رحمه الله في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: أمور الناس إنما تستقيم بالعدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويقال: إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وذلك إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم تقم بالعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة، ولقد حدثت مظالم عظيمة في عهد الأيوبيين، فقد سفكوا الدماء فيما بينهم، فقاتل الأخ أخيه والعم بني أخيه ظلماً وجوراً وتسلطاً على العباد والبلاد وحصرت دمشق وتعرض أهلها للمجاعة بسبب الأهواء والنزوات وإسراف بعض سلاطينهم في المال العام وتم الإعتداء في بعض الأحوال على أموال الرعية بدون وجه حق وقد بينا ذلك في مناسبات عديدة في كتابي * الأيوبيون بعد صلاح الدين، والحملات الصليبية، الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة * .
3 ـ النزف والإنغماس في الشهوات
قال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً مما أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيع وكانوا مجرمين" * هود ، آية : 116 * ، قال تعالى: "واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه" أراد الذين ظلموا: تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما إهتموا بالتنعم والترف والإنغماس في الشهوات والتطلع إلى الزعامة والحفاظ عليها والسعي لها وطلب أسباب العيش الهنئ[16]، وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة وابتعدوا عن شرع الله بالهلاك والعذاب قال تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين* فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون" * الأنبياء ، آيات : 11 ـ 13 * ، ومن سنة الله تعالى هلاك الأمة بفسق مترفيها قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" * الإسراء ، آية : 16 * . وجاء في تفسيرها وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها: أي : متنعميها وجباريها وملوكها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فأهلكناها، وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سوئهم، إنما وقع بإتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد[17].
إن أمر بني أيوب مازال مستقيماً في عهد صلاح الدين حتى أفضي أمرهم إلى إبنائه، فوقع بعضهم في الترف وآثروا الشهوات، وأقبلوا على اللذات والدخول في المعاصي والتعرض لسخط الله، والشواهد عل ذلك كثيرة نذكر منها ما كان في عهد الملك الأفضل وفي عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ما فعله أستاذ الدار وهو كبير أمناء الملك أو الرئيس والذي كان يجمع إلى منصبه إختصاصات الوزير وقاد الجيش في المعارك وفتح دمشق وكان متحللاً وعابثاً ومعتداً بقوته ومنصبه وتجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويسخر بالشرع ويسئ إلى مشاعر المسلمين، فبني فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعدة لسماع الغناء والموسيقى، وقد تصدى لذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام كما بينا ذلك في الكتاب الذي قبل هذا،ومن صور الترف في عهد الدولة الأيوبية التوسع في المآكل والمشارب وما يترتب على ذلك من آفات، وحب التكثر من المال والتوسع في الركوب وفي المسكن والملبس والنكاح لدى بعض أمراء وملوك البيت الأيوبي.
4 ـ تعطيل الخيار الثوري
ضرب الأيوبيون نظام الشورى في الحكم بالحائط ذلك النظام القائم عل حرية الانتخاب وحرية المعارضة والذي كانت القيادة الراشدة نفذته التزاماً بمعطيات القرآن والسنة في هذا المجال ولقد ولدت خطوة الأيوبيين هذه ردود أفعال خطيرة في الدولة الأيوبية، بل أصبح التسلط والغلبة هو الطريق للسلطة والحكم، فهذا الملك العادل بعد أن تغلب على بني أخيه قال لوزرائه ومعاونيه أنه قبيح بي أن أكون أتابكاً مع الشيخوخة والتقدم مع أن الملك ليس هو بالميراث وإنما هو لمن غلب ولقد كان يجب أن أكون بعد أخي السلطان الملك الناصر ـ رحمه الله ـ صاحب الأمر، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي ورعاية لحقه، فلما حصل من الاختلاف ما حصل خفت أن يخرج الملك من يدي، ويد أولاد أخي، فمشيت الأمر إلى آخره[18]، ثم أن الملك العادل ورَّث أبنائه من بعده وحدث قتال بينهم ورجع إلى نظام التوريث الذي كان له سلبيات خطيرة، ساهمت في سقوط الدولة الأيوبية منها:
ـ إن هذا النظام قد سيطرت فيه عاطفة الأبوة والأقرب نسباً وقوة العصبية على عملية التولية بصفة عامة، وقد أدى ذلك إلى الآتي:
تقيد حق الأمة في إختيار سلطان بحصره في أسرة معينة.
تقييد مبدأ الشورى بحصره في أهل عصبية وشوكة الأسرة الحاكمة.
دفعت المفضول إلى تولي السلطنة مع وجود الأفضل، بل وبمن إفتقد بعض شروط السلطنة مع وجود المستجمعين لهذه الشروط وفقاً لما سلف ذكره.
وضع الحكام موضع تهمة وشبهة، كما أشار الشك ـ عند بعض الناس ـ حول مشروعية البيعة بولاية العهد والبيعة للسلطان.
أدى إلى ظهور العداوة والبغضاء بين البيت الأيوبي وذلك مما أدى في النهاية إلى ضمور قوتهم وزوال شوكتهم[19].
5 ـ النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية
إن سنة الله تعالى ماضية في الشعوب والأمم لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل، وجعل الله سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم وزوال الدول الاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية * فأهلكوا * ، وعند ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه: فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي أسباب الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سبباً من الأسباب في ضياع الدولة الأيوبية وهلاكها وإندثارها، وكان لهذا الاختلاف الذي وقع في البيت الأيوبي أسبابه منها: ضعف الوازع الديني عند بعض الأمراء الأيوبيين الأنانية وحب الذات والتكالب على المصالح الدنيوية والتناحر من أجلها والحرص على السلطة والجاه والمنصب وتحكيم بعض الأمراء الأيوبيين أهواءهم في الأمور، فهذه الأسباب كانت وقوداً للمنازعات والخلافات التي وقعت بين أفراد البيت الأيوبي، فكانت من أكبر معاول الهدم وأسباب الضعف وتلاشي الدولة، وقد إستقرأ هذه الحقيقة ابن خلدون، حيث ذكر أن من آثار الهرم في الدولة إنقسامها، وأن التنازع بين القرابة يقلص نطاقها، كما يؤدي إلى قسمتها ثم إضمحلالها، لقد بدأ الخلاف المؤثر في الأسرة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين وسرعان ما انغمس الأيوبيون في صراعاتهم الداخلية فلم يحترم الأخ أخيه والعم بني أخيه، واستغل الملك العادل الأيوبي الجهل والطيش الذي إتسم به أبناء صلاح الدين، إذ أنه إستخدم علاقاته القديمة ومكانته لتحقيق هزيمة سياسية وعسكرية لجيش الملك العزيز قبل أن يستل جندي واحد سيفه من غمده، إذ كانت المنافسة قائمة بين الأمراء الصلاحية * أمراء صلاح الدين * والأمراء الأسدية، أمراء أسد الدين شيركوه الذين ورثهم صلاح الدين في جيشه، ونجح العادل في الإيقاع بين الفريقين، وقد وصف القاضي الفاضل الخلاف في البيت الأيوبي بقوله: أما هذا البيت فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا وإن الأبناء منهم اختلفوا فهلكوا، وإذا غرب نجم فما الحيلة في تشريقه، وإذا بدأ تخريق في ثوب فما يليه إلا تمزيقه، وهيهات أن يسد على طريقه، وقد قدر طروقه، وإذا كان مع خصم على خصم فمن كان معه فمن يطيقه، واستمر الصراع في الأسرة الأيوبية بعد وفاة الملك العادل، حيث اشتد النزاع بين أولاده الملك المعظم والملك الكامل أبناء البيت الأيوبي.
6 ـ مولاة النصارى
من لوازم الإيمان الصحيح الولاء والبراء، فكانت الدولة في عصر صلاح الدين عاملة بقول الله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير"* آل عمران ، آية : 28 * . وقول الله تعالى: "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارىأولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لا يهدي القوم الظالمين" * المادة ، آية : 51 * ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عري الإيمان، الموالاة في الله، والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله، أما في عصر الملك الكامل فضعف الولاء والبراء ويظهر ذلك في تسليم القدس للإمبراطور فريدريك الثاني على طبق من ذهب وبدون إراقة للدماء، وقد استعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الغم والهم والتألم ما لا يمكن وصفه وكان الملك الكامل لديه إستعداد للتحالف مع النصارى لقتال أخيه المعظم الذي تحالف مع الخوارزميين، كما أن الملك الصالح نجم الدين إسماعيل الذي دخل في صلح مع الصليبيين وسلّم لهم أحد الحصون وتصدى الشيخ عز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما وتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين لقتال الملك الصالح نجم الدين أيوب في مقابل تسليم القدس وإعادة مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قديماً بما فيها الأردن، ولكي يبرهن صاحب دمشق على صدق نيته تجاه الصليبيين بادر فوراً بتسليم القدس وطبرية وعسقلان، فضلاً عن قلعة الشقيف وأرنون وأعمالها، وقلعة صفد وبلادها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهم وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وأمام هذا السخاء العجيب ثار الرأي العام الإسلامي في مصر والشام على الصالح إسماعيل، حتى إن حاميات بعض القلاع رفضت طاعة الأوامر الصادرة إليها من الصالح إسماعيل في تلك الأثناء أسرع الصليبيون إلى تسلم بيت المقدس وأعادوا تعمير قلعتي طبرية وعسقلان، ثم رابطوا بعد ذلك بين يافا وعسقلان استعداداً للخطوة التالية وهنا وعدهم الصالح إسماعيل بأنه إذا ملك مصر أعطاهم جزءاً منها، فسال لعابهم لذلك، واتجهوا صوب غزة عازمين على غزو مصر، وسار الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور إبراهيم الأيوبي صاحب حمص على رأس جيوشهما في مهمة غزو مصر.
ولكن قادة القوات الشامية رفضوا طعن إخوانهم المصريين فما كانوا يلتقون بجيش الملك الصالح أيوب قرب غزة حتى تخلوا عن الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم وساقت عساكر الشام إلى عسكر مصر طائعة ومالوا جميعاً على الفرنج فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وهكذا تحالف الملك الصالح إسماعيل مع الصليبيين وتنازل لهم على مدن المسلمين من أجل الحكم والسلطان، إن بعض ملوك بني أيوب أمنعوا في موالاة النصارى الصليبين وألقوا إليهم بالمودة وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على اضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها وفقدت أبرز مقوماتها وسهل بعد ذلك زوالها من الوجود.
7 ـ فشل الأيوبيين في ايجاد تيار حضاري
حاول صلاح الدين بإيمان صادق وذكاء متميز حمل لواء المشروع الإسلامي الحضاري الذي تزعمه نور الدين محمود زنكي وحرص على الفتوحات العسكرية والدعوية، بحيث لاتطغى الأرض على الحضارة ولا الدولة على الدعوة، ولا تصبح اعتبارات السياسة أهم من مبادئ الدين وتقيد بالسياسة الشرعية، وعمل على ايجاد تيار حضاري عقدي يملأ أركان الحياة، ومهما يكن من أمر، فإن الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، لم تستوعب قانون الامتداد الحضاري، فبعد الامتداد والانتصارات كان عليها أن تمتد بالدعوة وتطور المدارس الإصلاحية حتى تواكب احتياجات العصر العلمية والتربوية والثقافية والحضارية إلا أن خلفاء صلاح الدين لم يستطيعوا أن يقدموا مشروعاً حضارياً يجدد حيوية الدولة ويرسم اهدافها ويدفعها بقوة نحوها، وإنما دخلوا في أنفاق مظلمة أنتهت بزوال دولتهم لقد فشل ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين في إيجاد تيار حضاري ولم يستطيعوا أن يحققوا التوازن بين الدولة والدعوة والأرض والعقيدة والسياسة والفكر، وكانت هذه رساله سامية تأخر فيها الأيوبيين وغلبتهم الظروف والتحديات فأصبحوا أمام قانون التاريخ الحضاري الذي لا يجامل ولا يحابي أما أن يتقدموا أو يزولوا من الوجود، فلا سكون في تاريخ البشرية.
8 ـ ضعف الحكومة المركزية
قسمّ صلاح الدين دولته إلى أقاليم إدارية يتمتع كل منها بإمكاناته الخاصة وطابعه المميز، مثل مصر والشام وشمالي العراق والنوبة والمغرب واليمن والحجاز وقضى أكثر سنين حكمه في ميادين القتال يمارس سياسة التخطيط والتنفيذ والإشراف وتوجيه سياسة الدولة العليا، ثم يترك حرية التنفيذ في الأمور المحلية في الاستعداد والدفاع للولاة وفقاً لظروف وإمكانات كل إقليم، وهو ما يُعبَّر عنه في مفهومنا الحديث* اللا مركزية الإدارية * . والحقيقة أن صلاح الدين لم يضع كافة السلطات في يده على الرغم من أنه كان الحاكم الذي يدير دفة الحكومة المركزية، والراجح أنه أدرك أن توزيع السلطات يجعل من كل سلطة رقيبة على السلطة الأخرى، وموازتة لها في ممارسة اختصاصاتها، كما أن تقسيم العمل بين عدة أشخاص أكفاء يحقق عدة مزايا تتعلق بإجادة العمل وسرعة انجازه، وقد ارتبطت الدولة الأيوبية التي بناها صلاح الدين الأيوبي بصفاته وسجاياه وشخصيته الفذة، فحين توارت هذه الشخصية من على مسرح التاريخ في المنطقة حدث فراغ كبير أضرّ بالجانب الإسلامي وعاد بالفائدة على الجانب الصليببي إذ كانت شخصيته ومواهبه وأداؤه السياسي والعسكري هو الذي حفظ الدولة من التفكك، ولم تكن هناك مؤسسات تضمن استمرار بقاء هذه الدولة الكبرى من ناحية، كما أن صلاح الدين قسَّم دولته، كما يُقسمَّ الإرث، بين أبنائه وأخوته وبني عمومته على نحو ما كان مألوفاً هي تلك العصور وكان طبيعياً ان تعود المنطقة إلى الوراء مرة اخرى نتيجة المنازعات والتشرذم السياسي الناجم عن الخلاف بين ورثة صلاح الدين، لقد كان خليفة صلاح الدين في مصر ابنه أبو الفتوح عثمان وكان وقت وفاة أبيه مقيماً بالقاهرة، وعنده جُل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد[30]، وتولى أخوه الأفضل نور الدين على حكم دمشق، على حين تولى الملك العادل الكرك والشوبك وولي الظاهر غازي حكم بلاد الشام الشمالية وكانت حلب عاصمته وتولى بقية أجزاء الدولة غير المهمة أبناء عمومته، ففي حمص حكم أفراد من أسرة تقي الدين عمر بن شاهنشاه[31]، وهكذا تفككت عُرى الدولة الإقليمية الكبرى التي جاهدت ثلاثة أجيال في إقامتها بمنطقة العراق والشام ومصر، عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، لقد كان تقسيم الدولة على نحو، كتقسيم التركات الخاصة سبباً في انهيار الوحدة السياسية للمنطقة وإطالة عمر الكيان الصليبي من ناحية أخرى، فتفتت دوله صلاح الدين، وضعفت الحكومة المركزية بعد وفاته، وقامت الحروب بين ملوك بني أيوب بدافع التملك والتوسع.
9 ـ ضعف النظام الاستخباراتي
كانت مؤسسة البريد والاستخبارات في عهد صلاح الدين قد اشتهرت بالتفوق الدائم على ما كان عند الصليبين واتصفت بالدقة والسرعة حتى أن أخبار العدو كانت تتواصل إليه ساعة فساعة، إلى الصبح، لا سيما في حصار عكا، وكانت استخباراته تضم بعضاً من الصليبين الذين استأمنهم السلطان في مناسبات مختلفة، وتكمن أهمية هؤلاء أنهم كانوا يعرفون لغة العدو، ولا يشك فيهم أنهم رجال صلاح الدين، بسبب من سحنتهم ومظرهم الخارجي، فكانوا يزودون الجيش الأيوبي بأخبار العدو التي يصعب عليها عن طريق رجال استخباراته المسلمين فذات مرة أخبروا صلاح الدين ما ينوي العدو القيام به من كبس العسكر الإسلامي ليلاً[33]، وأخبروه عن المنجنيق الصليبي الهائل الذي أنفقوا عليه ألفاً وخمسمائة ديناراً والذي أعدوه للهجوم على عكا وكذلك زودوا صلاح الدين بأخبار الحملة الألمانية، إلا أن بعد ذلك ضعف جهاز الاستخبارات، بل نجد أن الحملة الصليبية الخامسة تصل إلى دمياط ولم يعلم بها الملك العادل إلا بعد وصولها ولم تكن اختراقات الجهاز الإستخباراتي بعد صلاح الدين بالمستوى الذي كان عليه، فكان ضعف الجهاز الإستخباراتي للدولة الأيوبية بعد صلاح الدين من أسباب سقوطها.
10 ـ غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي
مع مجيء الملك الأفضل لحكم الدولة الأيوبية تغيرت بعض الوسائل الاستراتيجية التي كان يعتمد عليها صلاح الدين بعد الله تعالى في إدارة الحكم وحركة الجهاد وهي اعتماده على العلماء الربانيين فأبعد الملك الأفضل القاضي الفاضل وأقصى أمراء والده ومستشاريه، بتأثير الوزير ضياء الدين ابن الأثير أخو المؤرخ المشهور ابن الأثير على إدارة الدولة في عهد الملك الأفضل ولم يكن موفقاً أبداً بل جرّ البلاء والسخط والغضب والكراهية على الملك الأفضل وأصبح القاضي من بعد المبعدين عن القرار السياسي، وهو الذي قال فيه صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي ولكن بقلم القاضي الفاضل، ولم تكن مكانة العلماء والفقهاء بعد صلاح الدين بالمكانة التي كانوا عليها في عهد نور الدين وصلاح الدين، ولقد خسر الأيوبيون الكثير بإبعاد القاضي الفاضل ومن على شاكلته من دائرة القرار السياسي وقد قال ابو شامة عن القاضي الفاضل: كان ذا رأي سديد، وعقل رشيد ومعظماً عند السلطان صلاح الدين يأخذ برأيه ويستشيره في الملمات والسلطان له مطيع وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقليد آرائه وكان كتائبه كتائب النصر.
11 ـ وفاة الملك الصالح نجم الدين وعدم كفاءة وريثه
استطاع الملك الصالح نجم الدين أيوب، أن يدخل تشكيلات جديدة على القوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي والتي ساهمت في تقوية الجيوش وانعكس ذلك على الدولة ومن أهم الإجراءات التي اتخذها الملك الصالح نجم الدين أيوب، اهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان والأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطنة الأيوبية، فخلال مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة أكثر من ألف مملوكاً تركياً وعمل منهم جيشاً قوياً سانده في فرض إرادته على الأقاليم والقضاء على حركات التمرد الداخلية وكان ولاء المماليك للملك الصالح نجم الدين أيوب مطلقاً واستطاع إعادة هيبة الدولة الأيوبية من جديد ونجح إلى حد كبير في إعادة قوتها وسلطانها إلا أنه توفي أثناء الحملة الصليبية السابعة وكان عمره عند وفاته 44 سنة وعهد لولده المعظم تورانشاه وقامت شجرة الدر زوجة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ومن معها من الوزراء والأمراء بتثبيت الملك المعظم تورانشاه إلا أنه لم يكن رجل المرحلة وفشل في التحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تركيس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً بدأ يدبر للتخلص"من شجرة الدر" وكبار أمراء المماليك فاحتقر خصومه واستبد برأيه وابعد الأولياء ولم يلجأ إلى استخدام المال والسياسة في تفتيت خصومه وضعفت الشقة بينه وبين رجاله وفشل في كسب ولاء قادة الجيش فتم قتله وزالت الدولة الأيوبية بموته، هذه هي أهم الأسباب في زوال الدولة الأيوبية.
الخلاصة
1-
يختلف المؤرخـون حـول تاريخ ابتـداء الـدولة الأيوبية والذي نميل إليه هو
عام 569ﻫ /1174م أي بعد وفاة نور الدين محمود.
2-
تميزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي برصيد أخلاقي كبير ساعده على تحقيق
أهدافه العظيمة والتي من أهمها؛ تقواه وعبادته، وسلامة عقيدته، وعدله، وشجاعته،
وكرمه، واهتمامه بالجهاد، وحلمه، ومحافظته على أسباب المروءة وصبره واحتسابه
وفاؤه، وتواضعه.
3-
كانت العودة إلى هوية الأمة المسلمة وإلى عقيدة أهل السنة والجماعة، من
أبرز معالم التجديد في العهد الزنكي والأيوبي ولقد طال الانحراف وانتشرت البدع
وتحميها دولة ظالمة وهي الدولة الفاطمية العبيدية بمصر، فكانت العودة إلى تحكيم
الكتاب والسنة من أضخم منجزات الدولتين النورية والصلاحية، فقد أقيم العدل وقمعت
البدع، وصبغت الدولة بالصبغة الإسلامية الصافية وقد سار صلاح الدين الأيوبي على
نهج نور الدين زنكي بتطبيق الشرع في سائر أمور الدولة.
4-
استطاع صلاح الدين أن ينفذ المخطط الذي وضعه نور الدين زنكي للقضاء على
الدولة الفاطمية العبيدية، الرافضية وعمل على محاربة العقائد الفاسدة في مصر، وإعادة
الفكر الإسلامي الصحيح إليها.
5- استفادة الدولة الأيوبية من الجهود العلمية والوسائل الدعوية من الدولة
السلجوقية والزنكية والغزنوية.
6- اهتم صلاح الدين الأيوبي بالمحافظة على أصول العقيدة الإسلامية على مذهب
أهل السنة.
7-
اهتم صلاح الدين بحركة الإحياء السني في دولته وذلك عن طريق أنشاء المدارس
وجذب العلماء والفقهاء لدولته والإحسان إليهم.
8-
كانت عناية صلاح الدين الأيوبي والسلاطين الذين جاءوا بعده للتمكين لمذهب
أهل السنة في البلاد التي حكموها عناية شاملة ومكثفة في المدن التابعة لهم
كالقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وغيرها ومن أهم عناصر الثقافة والعلوم الشرعية
التي اهتم بها الأيوبيون، القرآن الكريم، والحديث الشريف، والدراسات الفقهية
والأدبية واللغوية.
9-
استطاعت الدولة الأيوبية إحياء النفوذ السياسي لدولة الخلافة العباسية في
أغلب أرجاء بلاد المشرق الإسلامي.
10-
كان فتح اليمن على يدي الأيوبيين خطوة استراتيجية للأجهاز على الدعوة
الفاطمية وقد حرص الأيوبيون على إدخال الكتب السنية مع جيوشهم ونشرها في بلاد
اليمن.
11-
يرجع الفضل بعد الله إلى عودة السيادة العباسية على الحجاز إلى مساعي
السلاجقة والزنكيين والأيوبيين.
12-
داوم ملوك بني أيوب على حماية طريق الحج وتأمينه، وحماية لواء الجح
العراقي الممثل لسيادة الخليفة العباسي
على العالم الإسلامي.
13-
استخدم صلاح الدين وسائل وأساليب عديدة في سبيل القضاء على الدعوة الفاطمية
بمصر جاءت بعض هذه الأساليب تتسم بالشدة والعنف والحسم الفوري المباشر والبعض
الآخر اتخذ وسيلة الحيلة والتدرج واستخدم بعضها القّوى العسكرية، في حين نهج البعض
الآخر سبيل الدعوة والتعليم والإقناع، والاستمالة عن طريق المنشآت الاجتماعية
والدينية الخيرية وما يوقف عليها من المنشآت الاجتماعية والدينية الخيرية وما يوقف
عليها من أوقاف للصرف عليها.
14-
كان للقاضي الفاضل دور بارز في رسم هذه الإستراتيجية واتخاذ الوسائل المناسبة
للقضاء على الدولة الفاطمية، كإذلا الخليفة الفاطمي العاضد، ووضعه من مكانة القصر
الفاطمي، وقطع الجمعة الجامعة من جامع الأزهر، وأبطال تدريس الفكر الفاطمي به،
وإتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية وألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطميين
ومحو رسوم الدولة وعملاتها، وإضعاف عاصمة الدولة الفاطمية والاستمرار في ملاحقة
بقايا التشيع في الشام ومصر ..إلخ.
15-
من العوامل التي ساعدت الأيوبيين على حركة الإحياء السني، لم يكن المذهب
الشيعي الإسماعيلي راسخ القدم في الشعب المصري، وكانت المدارس السنية تعبيء الأمة
على التمسك بالكتاب والسنة وتحذرها من البدع والابتداع، كما أن مصر أصبحت منطقة جذب
ونشاط لعلماء السنة على اختلاف مذاهبهم، فأسهموا إسهاماً رائعاً في العودة بمصر
إلى رحاب السنة وذلك عن طريق التدريس في المدارس التي أنشئت أو عن طريق الوعظ أو
تأليف الكتب التي تنتصر للسنة.
16-
كان معظم العلماء الذين شاركوا الأيوبيين في جهودهم على مستوى المسئولية
التي ألقيت على عاتقهم : علماً وخلقاً وديانة، كما كان الكثير منهم مشاركة في
الحياة السياسية، والاجتماعية، كالقاضي الفاضل والعماد الأصفهاني، وبهاء الدين بن
شداد، وشرف الدين بن أبي عصرون والعز بن عبد السلام بل كان لبعضهم مشاركة فعالة في
ميادين الحرب والجهاد، كالفقيه، عيسى الهكاري وكان كثير منهم على قدر كبير من
الشجاعة في مواجهة الحكام والنصح لهم، فكانوا نماذج رائعة لعامة الناس، ومن ثم فإن
تأثيرهم فيهم كان قوياً مؤثراً.
17-
كانت الدولة الأيوبية في عهد صلاح الدين تعيش في سعة من الرزق وبحبوحة من العيش،
ذلك لأن مواردها كثيرة، ومنابع الأرزاق فيها متنوعة وقد اهتمت الدولة بالزراعة
والتجارة، والصناعات وإلغاء المكوس والاكتفاء بالموارد الشرعية.
18-
اهتم صلاح الدين بالمستشفيات وقد قام ببناء مجموعة من أشهرها، المستشفى
الناصري في القاهرة وبيمارستان الإسكندرية، والصلاحي بالقدس، وغيرها، كما اهتم
ببناء أماكن للصوفية، للتربية والتعليم والعبادة وقد أحسن للصّوفية، وساهموا معه
في حركة الإحياء السني، وادمجوا في المشروع الجهادي ضد الصليبيين.
19-
كانت الحياة الاجتماعية في عهده تتسم بطابع الجدية والجهاد ومناهضة الفرنج
ومكافحة العدو وكانت حياته الخاصة بعيدة كل البعد عن مظاهر الأبهة الفارغة الكاذبة
والعظمة الزائفة والبذخ المفرط
20-
كان لظهور الدولة الأيوبية أثر كبير في إحداث تطورات إدارية رئيسية تخالف
تقاليد الجهاز الإداري الفاطمي، إذ أن قدوم الأيوبيين من مشرق العالم الإسلامي حمل
معه روحاً جديدة في الإدارة كان مصدرها النظم السلجوقية والزنكية والعباسية.
21-
كان قراقوش من أروع القادة وأشجعهم وكانت سياسته في القاهرة حكيمة وحازمة
في إزالة الفاطميين وتضييق الخناق على بقاياهم لذلك لم يجدوا سبيلاً لمحاربته إلا
بالإشاعات وتشويه السمعة حيث وضعوا عنه كتاباً أسموه "الفاشوش في أحكام
قراقوش" وهي الإشاعات التي يرددها معاصرونا دون معرفة لمصدرها.
22-
شرع صلاح الدين في تحصين المدن وبناء القلاع وتنظيم الجيش لصد احتمال هجمات
عليها، واهتم آنذاك ببناء قوات بحرية لأنه أدرك أن قوة الفرنج في البحر وضعفهم في
البر، وأنه لابد من بناء أسطول حربي لمنع القوافل الفرنجية البحرية التي كانت تعزز
الممالك الصليبية في ساحل الشام بالمؤن والسلاح والرجال كلما اشتد عليهم الضغط
البري.
23-
استغرق الجهد الذي بذله صلاح الدين لتوحيد الجبهة الإسلامية 12 سنة من
الكفاح المرير وأضحى بعد ذلك سيد مصر والشام والموصل وغيرها من بلاد المسلمين وقد
تمكن صلاح الدين من تحقيق الوحدة أحياناً بالدبلوماسية وبالتهديد والترهيب أحياناً
أخرى وبالعمل العسكري المحدود في بعض الأوقات.
24-
القاضي الفاضل العالم الكبير كان مؤثراً في دولة صلاح الدين وكان يشاوره
ولا يقطع أمراً دونه ولا يخفى عنه شيئاً من أمور الجهاد، فقد كان سياسياً بارعاً
وإدارياً متميزاً، ومفكراً متفوقاً، وعلماً متبحراً وأدبياً تصدر الصادرة في زمانه
بقلمه السيال الذي وظفه لخدمة الإسلام والمسلمين.
25-
كان انتصار صلاح الدين في معركة حطين تاريخياً ومن أسباب ذلك الفوز الكبير،
الأخذ بسنة الأسباب ومراعاة سنة التدرج في الصراع، وبعد نظره وحنكته السياسية
وإخلاصه العظيم لله تعالى، والحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية في دولته التي كان
من ثمارها؛ الاستخلاف والتمكين والأمن والاستقرار والعز والشرف والنصر والفتح.
26-
لم يظهر جيل صلاح الدين من فراغ وإنما سبقته جهود علمية وتربوية على أصول
منهج أهل السنة والجماعة وأصبح ذلك الجيل الذي أكرمه الله بالنصر في حطين تنطبق
فيه كثيراً من صفات الطائفة المنصورة والتي من أهمها؛ أنها قائمة على الحق وأنها
قائمة بأمر الله ومجاهدة في سبيله .. إلخ.
27-
كان صلاح الدين يلازم العلماء ويجالسهم ويستشيرهم في الحروب والإدارة
ويستمع إلى نصائحهم ويقدرها وقد لاقى صلاح الدين التأييد التام من العلماء
والفقهاء.
28- استطاع صلاح الدين أن يخترق الصليبيين استخباراتياً وكان له جهاز سري في
جمع المعلومات عن الأعداء متميزاً.
29-
كانت معركة حطين بشيراً بنجاح المسلمين في القضاء على أكبر حركة استعمارية
شهدها العالم في العصور الوسطى كما شكلت حداً تراجع عنده المدُّ الصليبي باتجاه
الشرق الأدنى الإسلامي وبداية النهاية للوجود الصليبي.
30-
أبرزت هذه المعركة أهمية الوعي الكامل بضرورة توظيف معطيات الموقع الجغرافي
للشرق الإسلامي، واستثمار ميَّزاته، بحيث يكون عاملاً فاعلاً من عوامل القوة
الذاتية ومن دلالات المعركة بروز أهمية مصر كقاعدة بشرية مادية بالغة الأهمية في
الربط بين العالم الإسلامي في الشرق الأدنى، كما تجلت أهمية أرض فلسطين التي
تُعدُّ بمثابة الجسر أو المعبر الذي يوصل بين بلاد الشام ومصر.
31-
لم تأت انتصارات صلاح الدين من فراغ ولم تكن النتائج العسكرية التي حققها
من دون مقدمات سياسية وتنظيمية وإدارية وإصلاحية وإحيائية امتدت على أكثر من قرن،
ساهم في تلك الجهود العلماء الربانيون والساسة والعسكريون والشعراء، والمربون ..
إلخ.
32-
إن الطريق الوحيد لتحرير الأراضي المحتلة هو طريق الجهاد في سبيل الله الذي
يمثل جوهر الأمن في أمتنا وذروة سنام ديننا، إنه باب من أبواب الجنة إنه انطلاق من
قيد الأرض وإرتفاع عن التثاقل إلى الدنيا وما كانت الأمة أن تحمي وجودها ومقدساتها
إلا بعبادة الجهاد في سبيل الله هذه العبادة التي مارسها نور الدين وصلاح الدين
كانت من الأسباب للتصدي للغزو الصليبي وتحرير بيت المقدس.
33-
يعُّد المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ
الحروب الصليبية لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذل فيها من جهد ضخم
فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله وهو استعادة بيت المقدس
من يد المسلمين.
34-
تميزت هذه الحملة الصليبية بحدوث تفاهم كبير مع المسلمين فكان الطرفان
شديدي الصلة ببعضهما وتعّدى ذلك عقد صلح الرملة وإرسال الفواكه والثلج لريتشارد قلب
الأسد أثناء مرضه وحضور صلاح الدين لمعالجته وكان من آثار هذا الاختلاط في حياة
الفرنج ما يأتي:-
أ-
نقلوا عن المسلمين كثيراً من العلوم والمعارف التي كانت سائدة بينهم في تلك
الفترة وقد ألقوا فيها كتباً احتوت كثيراً من التجديد والإبتكار ووضع قوانين في
هذه العلوم.
ب- نقلوا عن المسلمين كثيراً من الصناعات والفنون مثل صناعة
النسيج والصناعة والمعادن والزجاج كما نقلوا عنهم فمن العمارة وكان لهذا النقل
تأثير عميق في حياة أوروبا الصناعية والتجارية والفنية يقول جوستاف لوبون: ولم يكن
تأثير الحروب الصليبية في الصناعة والفنون أقل من ذلك .. ثم يقول : وعن المسلمين
أخذت أوروبا صناعة النسائج الحريرية والصباغة المتقنة .. ولم يلبث فن العمارة أن
تحول في أوروبا تحولاً تاماً
ت- تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثراً أدى
إلى نمو الحضارة الغربية وازدهارها، لولا الحروب الصليبية لتأخر نمو الحضارة في
أوروبا مدة لا يعلمها إلا الله ولقد اعترف المنصفون من المستشرقين بهذه الحقيقة
قبل أن يقولها مؤرخو المسلمين.
35-
تأثر الناس بوفاة صلاح الدين حتى المؤرخون الأوروبيون ترحموا على صلاح
الدين وأشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب
الصليبية قاطبة وفي ظني أن أعظم في ذلك العصر نور الدين محمود.
36-
كان حب صلاح الدين للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه
استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلاته، ولا كان له
اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا من يذكره ويحثه عليه ولقد هجر في محبة الجهاد في
سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده وقنع من الدنيا بالسكون في ظل
خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة.
37-
جاءت وفاة صلاح الدين خسارة كبرى للجبهة الإسلامية المتحدة إذ أنذرت هذه
الوفاة بقيام المنازعات بين أبناء البيت الأيوبي.
قلعة الجبل يالقاهرة من مصادر البحث forums.mazika2day.com http://islamstory.com من صفحات التاريخ الاسلامي | |